الأقسام
- قيام النظام الإماراتي في كوردستان
يتسم كل شعب بخصوصية في تشكيل هياكل الحكم المحلي التي تلبي حاجاته الاجتماعية والاقتصادية والروحية، وقد تمكنت المجتمعات الكوردية طوال سيرورة تطورها وتمايزها أن تنتج أشكال مميزة للحكم المحلي. وانبثقت هذه القدرة على انتاج أشكال متقدمة ومبكرة من السلطات المحلية عن نظامه الاجتماعي المنتج والراسخ من جهة، ومن تنوع مجتمعاته واتساع رقعتها السكانية من جهة أخرى. ولعل أكثر هذه السلطات فعالية وديمومة ما تم انتاجه في اواسط القرن العاشر الميلادي. حتى أطلق البلدانيون والمؤرخون العرب على أغلبها صفة (الدولة). لقد كان لتشكل وترسخ السلطات المحلية الكوردية علاقة مع الظروف والمناخات التي تراجعت فيها السلطة العربية الإسلامية المركزية، ومع تصاعد نفوذ القبائل الآسيوية التركية في العهد العباسي، تشكل فراغ سياسي، ومهدت هذه المرحلة الانتقالية لأن تتقدم زعامات محلية كوردية طورت أشكال الحكم المحلي لترتقي إلى مصاف إمارات ودول قرنوسطية. تقدم لنا المصادر التاريخية تفاصيل حول خمس من هذه الحكومات المحلية الكوردية ما بين منتصف القرن العاشر ونهاية القرن الثاني عشر، وهي الحسنوية والعنزية والروادية والشدادية والمراونية. وكان الكورد البازركانيون بقيادة زعيمهم حسنيه، أو حسنويه قد أسسوا كياناً سياسياً مستقلاً في الأراضي المركزية من جبال زاجروس في سنوات (959 -1095) م، وكانت العاصمة مدينة كرمسين (كرمنشان المعاصرة). تحطمت الامارة الحسنويه تحت ضغط هجرات وغزوات قبائل الغز التركية. وهي قبائل بدوية تركية تضافرت غزواتها مع جهود السلطان السلجوقي ألب أرسلان في القضاء على كل أشكال الحكم المحلي في كوردستان. كما تأسست الامارة العنزيه للكورد الشذبانيون الى الغرب من الحسنوية في حلوان (قرب خانقين الحالية). بعد حوالي ثلاثين سنة، تمددت واتسعت باتجاه شهرزور والدينور. ثم أسس الكورد الهذبانيون كياناً سياسياً إلى الشمال من الامارتين السابقتين، هي الامارة الروادية في المنطقة التي باتت تعرف اليوم بأذربيجان الغربية. وقد قاوم أبرز حكامها فاسوان بن ماملان غزوات قبائل الأوغوز التركية طوال فترة حكمه (1019 – 1054) م. على نفس المسار المنتج للحكومات المحلية الكوردية أسس محمد بن شداد الامارة الشداديه بين أعوام (951-1099) م. وقد اتخذوا من مدينتي آران ودوين عاصمتان لهم. تعد هذه الامارة أحد دويلات أقصى الشمال من كوردستان التاريخية. لذلك اضطروا لمحاربة الروس والأرمن، وصولاً إلى مقاومة الهجوم البيزنطي - الأرمني من الغرب، والضغط السلجوقي من الشرق، وهذا الأخير أنهى كيان تلك الامارة، وشتت سكانها. ثم تأسست الامارة المروانية في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، وكانت أهم وأوسع هذه الامارات كلها، وقد اضمحلت بعد أن احتل سنجر السلجوقي مدينة دياربكر، وحاصر المروانيين. حتى وحد عدد كبير من الأقاليم سنة 1117م وأطلق عليها إسم (كردستان).
وبذلك انتهت المرحلة الأولى من مراحل انتعاش الدول المحلية الكوردية، وامتدت فعالية المجتمعات الكوردية الى المرحلة الثانية من مراحل صعود الحكم المحلي الكوردي. ونفترض أن حلقة الوصل بينهما كانت الممالك الأيوبية التي وصلت بين قوة وعزيمة السلالات الكوردية الحاكمة وربطت بينها، حيث ورثت وشائج الحكم والسلطة من الشداديين والمروانيين بشكل خاص، ثم ورثتهم للممالك الأخرى، وللإمارة المازنجانية ولسلالة مبارزكك في سهول الجزيرة الفراتية وجبال منطقة بهدينان.
يعد هذا الاجتماع البشري المنظم سياسياً ضمن دويلات وامارت كبيرة نسبياً، نقلة نوعيه نحو الانتظام والادارة والحوكمة عهدئذ، فلم تكن الامارات الكوردية مجرد تشكيلة عسكرية – قبلية طبقاً للانطباع السائد في الأدبيات السياسية – التاريخية الرائجة، وإنما كانت تلك الامارات وحدة سياسية اجتماعية واقتصادية قائمة بذاتها، متجاوزة لحدود القبيلة. لقد انشغل سكان الامارة ضمن شبكة واسعة من النشاطات التجارية والزراعية والرعوية والحرفية والثقافية المتنوعة التي أمنت الاكتفاء الذاتي، ودعمت بنيان الاستقلالية تحت زعامة الأمير. فالأمير الكوردي كان يسيطر على جميع الأراضي ومن عليها من السكان، على غرار تقاليد باقي الامارات الاسلامية في تلك العصور: "على الصعيد السياسي، احتل الأمير منزلة الحاكم الأعلى، الذي امتدت سلطته إلى عدة قبائل ومدن وقرى. فهو المسؤول عن فرض الضرائب وحماية الرعية ورعاية المساجد ومدارسها وبناء المنشآت العامة وصيانتها. لم تكن شرعيته في الحكم مبنية على كونه رئيس قبيلة قوية معينة، وإنما على مفهوم خاص، كونه الامتداد التاريخي لشرعية سياسية – اجتماعية سابقة. بتعبير آخر، ادعى الأمير الكوردي بحق، أو بدون حق، أنه سليل إحدى السلالات التاريخية الحاكمة الشهيرة. فهو بهذا النحو قدم نفسه حاكماً لجميع السكان المحليين بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية. كما حافظ على التنوع في أساليب الحياة الاجتماعية والثقافية، فقد وجدت في الامارات الكوردية جنباً الى جنب الرحل والمستقرون، المدنيون والقرويون، القبليون وغير القبليون، المحاربون والأهالي، أصحاب الاقطاعيات والفلاحين، التجار الكبار وأصحاب الدكاكين، الحرفيون والمستخدمون. فضلاً عن هذا التنوع الاجتماعي والوظيفي، كانت للأمارة شريحتها المتعلمة والتي شملت الشعراء والمدرسين والموسيقيين والكتاب والفنانين. احتل الأمير مركز القمة في النظام الاجتماعي، بينما شكل الأشراف الطبقة السامية والمهيمنة، التي تألفت من قادة القبائل وكبار رجال الدين والموظفين الكبار، الذين كانوا يشرفون على الشؤون الخاصة بالأمير، وترتيب الأمور الادارية والتجارية والثقافية والخدمية. أما سائر ابناء القبيلة من المحاربين والتجار والحرفيين والباعة فقد شكلوا شرائح اجتماعية وسطية متدرجة، وقفت فوق الفلاحين والخدم، وهم الفئات الدنيا من المجتمع الاماراتي." (اسكندر، 2008، ص16)
ونلاحظ أن الامارات الكوردستانية شكلت حكومات متقدمة في سياقاتها الزمنية، نفترض أنه قلما توافرت إمارات توازيها في العوالم التقليدية عصرئذ، حيث حققت انجازات وقفزات على كافة الصعد، بما فيها العلمية والعمرانية، وخاصة الإمارة – الدولة الدوستكية المراوانيه (973 – 1094) م، التي كانت تعد النواة المتقدمة والصلبة لسلطة الخلافة العباسية في الوقت نفسه. حتى أن هذه الامارة الكوردية النوعية المتقدمة قد مهدت السبل لبروز الممالك الأيوبية في بلاد الشام والجزيرة الفر اتية، كما سبق ذكره.
2- النظام الاماراتي كمعادل سياسي لفعاليات المجتمعات الكوردية
جاءت ولادة وتطور السلطات المحلية الكوردية في القرن العاشر الميلادي كأول استجابة للنمو والانتعاش الاقتصادي والزيادة السكانية ضمن المجتمعات الكوردية الراسخة في مناطقها الجبلية والسهول المحيطة بها، كما ارتبطت بتفكك وضعف السلطة المركزية العربية الإسلامية في بغداد، وتراجع دورها العسكري والسياسي. حتى تم الانتقال والتحول من وضعية المجتمعات الريفية التي تدير نفسها بنفسها منذ أقدم العصور الى حالة أكثر دينامية، حيث ارتبطت بالحواضر، ومهدت لاتحادات اجتماعية للعديد من أسر النبلاء والاقطاعيين والنخب الحضرية. كما ظهرت قوى سياسية محلية منبثقة من اتحاد المجتمعات الكوردية، وتوجت هذه الجهود عبر سيرورة اجتماعية واقتصادية طويلة الأمد. وبالتالي انجزت هذه المجتمعات المهمشة خطوات سياسية مهمة، أثمرت عن أشكال حكم قوية في المدن الكوردية القديمة، وصولا الى ولادة إمارات كوردية مستقلة، تغطي مساحات واسعة من الأرض في المرحلة العباسية، تجاوزت حدود بعض المدن وأريافها، لتشمل السهول والمراعي. وتعد الامارة المروانية – الدوستكية التي انطلقت من مدينة فارقين شمال دياربكر (آمد)، أحد أهم هذه الحالات النموذجية، حيث جسدت القفزات السياسية المبكرة للمجتمعات الكوردية الصاعدة عهدئذ. وإن سبقتها حالات أخرى، لكن تظل الدولة الدوستكية حالة نموذجية تفصح عن سيرورة ريادية لتطور المجتمعات الكوردية من النواحي السياسية والاقتصادية والحضارية.
فقد توسعت منذ أواخر القرن العاشر الميلادي لتضم أغلب جبال كوردستان، وأعالي الجزيرة الفراتية وسهولها وصولاً إلى نصيبين والموصل. وقد استولى الأمير باد "على الموصل سنة 983م، بترحيب من سكانها، واستوزر أبو المطرف عليها، وهكذا وصل نفوذ الدولة الدوستكية الى حدود تكريت من العراق، والتي تجمعت فيها القوات البويهية المنهزمة وظلت الموصل في يده مدة سنة. وبينما كان الأمير الكردي يستعد للزحف على بغداد والقضاء على الدولة البويهية في العراق. زجت الدولة البويهية بمعظم إمكاناتها الحربية في معركة حامية جنوب الموصل، فحلت الهزيمة بقوات الأمير وتراجع نحو إقليم دياربكر" (يوسف، 2001، ص23)
اعترفت المملكة البويهية التي كانت تحت سلطة الخليفة العباسي بالدولة المروانية الدوستكية، وكذلك الحال بالنسبة للخلافة الفاطمية في مصر. أما بالنسبة للإمبراطورية البيزنطية، فبعد جولات من الحرب والسلم تعايشت لفترة مع الدولة الدوستكية. لكن الحكام الدوستكيين مالوا الى السلاجقة، ورفعوا الخطبة باسمهم، ودفعوا لهم أموال كثيرة. وفي النهاية طوق السلاجقة قلب الدولة الدوستكية، حتى تراجعت وانكمشت أمام نفوذهم المتعاظم، ثم انهارت سلطتهم، وحكم السلاجقة كوردستان من داخل امارتها الأكبر سنة (1094) م.
أهم ما يميز هذه الدولة الكوردية عن غيرها، هو امتلاكها لأهم خصائص وأسس الدولة القوية عهدئذ، كوجود نظام وزاري لتوزيع صلاحيات الإدارة والحكم، إضافة الى جيش نظامي وشرطة، ونظام بيروقراطي مالي للجباية، إضافة الى سك النقود. وكانت النقود تُسَك تحت المراقبة بدءاً بعيد نوروز، حيث تبدأ السنة المالية، وذلك في أغلب المدن الكوردية عهدئذ، وخاصة الدينار الفضي. (يوسف، 2001، ص104)
لقد تنامت في الدولة الدوستكية خطط العمران. لدرجة أن أنشأت إدارة خاصة لبناء وترميم الأسوار، كما في فارقين وآمد. وتحسنت الصناعات، كحياكة النسيج والستائر، الدباغة وصناعة الصابون من حبة البطم (كه زوان). كما أنجز الحرفيون في ظل الدولة الدوستكية، دياربكر وفارقين بشكل خاص صناعات معدنية غاية في الجودة والجمال، سواء تلك التي من النحاس أم الحلي الذهبية والفضية. وقد رصدت المصادر التاريخية ذروة تطور الصناعات الميكانيكية والساعات والآلات المائية في الدولة الدوستكية، وخاصة ساعة (بنكام) لجامع مدينة فارقين، والباب النحاسي الذي عمله نصر الدولة لقصره في مدينة النصرية.
صورة لمنشأة الجزري الميكانيكية في دياربكر
ومن الناحية النظرية ألف الجزري أهم كتاب في الميكانيك وعلم الحيل والآلات على مستوى العالم في ظل الدولة الدوستكية، وهو كتاب: الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل.
باختصار حققت الدولة الدوستكية قفزة في الحرف والصنائع والعمران. وقد يكون لجذور العائلة الحاكمة فيها وثقافتها دور في هذه القفزة، حيث تعود أصولهم إلى قرية كرماس، بين منطقة شيروان وهيزان، وكان جدهم الأول يملك طاحونة مائية ويديرها. إذ نجد أن جذرهم الريفي، وأصولهم البختية (بوتان)، وميولهم الحضرية قد تضافرت لتشجيع وتطوير كل هذه الحرف والصناعات. (يوسف، 2001، ص360)
اختفت السلطة المروانية الدوستكية، لكن منجزاتها ومجتمعاتها ونظمها العسكرية والمالية ظلت على الأرض، ويمكن الافتراض أن الممالك الأيوبية قد انبثقت عنها، حيث توجهت الزعامات الكوردية، وخاصة العسكرية للالتفاف حول قادة جد تمثلت في العائلة الأيوبية.
3ـ ولادة الممالك الأيوبية وتكرار تجربة الاندثار العربي
أول سمة للممالك الأيوبية، أنها تأسست وتبلورت خارج بلاد الكورد في سياق الصراع مع الفرنجة، بمعنى من المعاني أنها ظاهرة عابرة للأثنيات والأقوام، وترجمة لصراع الشرق الإسلامي مع الغرب المسيحي. وظلت هذه الممالك تتوارث أخلاقيات المجتمعات الكوردية الدفاعية، فالمجتمعات الكوردية كانت عبر التاريخ دفاعية راسخة. ومن جانب آخر ترجمت ولادة واستمرار الممالك الأيوبية ظاهرة التحالف مع المجتمعات العربية التي أنهكتها الحروب، وتراجعت قوتها العسكرية، كما تفككت روابط النخب العربية الحاكمة إلى حد الضعف أو الانسحاب من المواجهة مع الغزاة الفرنجة.
لقد استفاد العالم الإسلامي من قوة وكثرة عدد الفرسان الكورد، وتعاونت جهات متعددة وتحالفت في ظل الحكم الزنكي لإحياء منهج عسكري جهادي جديد في مواجهة الفرنجة. وكان حامل هذا المنهج الدفاعي والجهادي الجديد هو المخزون البشري الكوردي المتركز في شمالي الجزيرة الفراتية، والقريب من ساحل البحر المتوسط وبلاد الشام.
وفي سياق مجريات الحروب والمعارك الدامية، وعبر شبكة من المحفزات والعوامل التي غيرت المعادلات السياسية، وأثر تراجع قوة الزنكيين، تصدر المشهد العسكري وقيادة عمليات الدفاع عدد من الفرسان والأمراء الكورد، حتى هيمنت الجماعات ذات الأصول اللغوية والثقافية الكوردية منطقة واسعة، متمددة بصيغة ما، ومكررة لتجربة التوسع العربي في بدايات عهد الفتوحات. وربما ليس من المبالغة أن يتم توصيف الحالة: بأن الكورد قد ورثوا العرب مطلع الألف الثاني الميلادي في قيادة الممالك والامارات الإسلامية لمواجهة الحملات الصليبية، ومحاربة ما استطال عنها من ظواهر تمرد وتحركات للمجتمعات المسيحية الشرقية والبيزنطينية والأرمنية.
وبعد تفكك قيادة الامارات الكوردية في القرن الحادي عشر الميلادي، صبت قوتها العسكرية والاجتماعية في المجرى الذي ينظم المقاومة ضد غزوات الفرنجة. ويمكن الافتراض والاجابة على التساؤل الذي تكرر حول طبيعة ظروف قيادة ومن ثم حكم النخب الكوردية للعالم الإسلامي من المركز، أي من بلاد الشام ومصر؟
يمكن تبسيط الاجابة في أن الكورد حكموا لأنهم كانوا القوة الأساسية على الأرض في المناطق القريبة من خط التماس العسكري، واستمدوا قوتهم من رسوخ مجتمعاتهم، ومن فيضهم السكاني الكبير، الذي كان يغذي الجبهات والمدن والأرياف بالموجات البشرية من عهد إلى آخر. ولكن هذا التدفق البشري والاتساع الجغرافي أرهق في المحصلة المجتمعات الكوردية، وشتت نخبها الحاكمة، التي بدأت تفقد السيطرة على المجتمعات المحلية، وتضعف مام القوى الغازية، سواء لصالح تقدم الفرنجة واستقرارهم، أم التراجع أمام القبائل الآسيوية التي عززت قوتها عاماً بعد آخر، وأزاحت الأيوبيين عبر التحالف مع الصليبيين والأرمن. فانفتح الطريق أمام خليط غير متجانس من النخب العسكرية والمجتمعية الإسلامية والتي تمخضت أخيراً عن حكم المماليك. وطويت صفحة الحكم الأيوبي الكوردي في دمشق وحلب والقاهرة، كما طويت قبلها صفحة الحكم العربي المركزي في بغداد بآليتين متشابهتين في خطوطها العامة.
وكخلاصة واستنتاج يمكن القول إن الممالك الأيوبية استمدت نسغها، وقيادتها من الأمارة الشدادية، وقوتها من الامارة الدوستكية الكوردية. كما ورثت جانب من قوتها ومنظومتها العسكرية إلى المماليك. الذين قاموا بدورهم بدعم نويات الامارات الكوردية المتبقية على الأرض في كوردستان، وخاصة مملكة حصن كيفا الأيوبية على نهر دجلة، وأولهوها بالتقدير والاحترام، وكذلك حسنوا علاقاتهم مع امارة هكاري، والامارة المازنجانية في الجزيرة الفراتية. بحيث شكلت نسيج هذه العلاقات في جانبه الاجتماعي والأثني الكوردي سلسلة ربطت بين النظام الإماراتي الكوردي الأول في القرن الحادي عشر، والنظام الاماراتي الكوردي الثاني في القرن الرابع عشر الميلاديين. كون هذه الدول والامارات لم تكن ظواهر فردية ولا سلاليه فحسب، وانما ظاهرة مجتمعية وأقوامية في العمق.
4 ـ تطور أنظمة الحكم المحلي الكوردي عبر الزمن المديد
كانت المجتمعات المحلية تدار من قبل سلطات محلية في أغلب مراحل حكم الامبراطوريات الواسعة، وذلك لمرونة ادارتها من المركز، والاعتماد على آليات الولاء والتبعية لتلك الامبراطوريات. ودون الخوض في تفاصيل الإدارة من قبل المركز، لذلك يمكن الافتراض أن أغلب المناطق ذات الغالبية السكانية الكوردية، ومنذ تبلور هذه الهوية الأثنية – الثقافية الكوردية في الألف الأول ق. م، كانت تدار من قبل سلطات محلية متوارثة، ومنبثقة من النظام الاقطاعي والعشائري المحلي بشكل عام.
يستنتج من المصادر التاريخية أن الامبراطورية الميدية ذات الجغرافيا الواسعة هي التي ساهمت في بلورة هوية المجتمعات الكوردية الموحدة، كما رسخت حالة الاتحادات الاجتماعية، وأضفت على الزعامات المحلية الشرعية، لدرجة أن كل ما قام به مؤسس هذه الامبراطورية دياكو هو أنه وفق بين هذه السلطات المحلية، ووحد القبائل والأثنيات الفرعية، وشكل لها سلطة مركزية تحت قيادته بحكمة بالغة. حيث كانت العاصمة اكباتان هي مركز حكمه، إلا أن الأطراف كانت تتمتع بالاستقلالية. لدرجة أن هذا النظام توارثته الامبراطوريات الايرانية عاماً بعد آخر، وامتدت من الامبراطورية الميدية الى الأخمينية، وكذلك ظلت سائدة في المناطق الكوردية الغربية التي خضعت لحكم اليونان والرومان، وظهرت بشكل أكثر وضوحاً ومرونة في عهد ملوك الطوائف، الذين كان أغلبهم كوردا من الناحية الثقافية. وصولاً الى العهد الساساني ذات السلطة المركزية الضعيفة. لذلك استمرت هذه التقاليد السياسية المحلية في صيغها المتباينة للحكم الذاتي، حتى ارتخى المركز في العهد الساساني المتأخر، لدرجة كانت الإمبراطورية الساسانية شبه مفككة عند قدوم طلائع الفرسان العرب.
فالتكوين والبنية الاتحادية المرافقة للاستقلال النسبي المحلي، تعد خاصية للدول والامبراطوريات الإيرانية، وخاصة ميديا: "الإمبراطورية الميديه بعد توسعها عام 612 ق.م كانت ما يشبه الاتحاد الفدرالي لحوالي سبع وعشرين قبيلة، بحسب ول ديوانت.." (خليل، 2011، ص105)
انتقلت عملياً هذه التقاليد السياسية، وتسربت نسبياً الى الدولة العربية الإسلامية، مع حواملها الاجتماعية والسياسية من أبناء المجتمعات المحلية. وترجمت في نظام الولايات فالإمارات.
بمعنى آخر، لم يكن صعود القوى السياسية الكوردية المحلية حالة مستجدة على المجتمعات الكوردية الراسخة، ولا على الامبراطوريات التاريخية الكبرى، وإنما كانت حلقات مترابطة ومتسلسلة ضمن سيرورة تاريخية موضوعية عبر الزمن المديد. كانت نزعة شبه فطرية تترجم رغبة المجتمعات في ادارة نفسها والتخلص من عبئ الحكام الغرباء.
وكتذكير بحقيقة الدرجة العالية من الاستقلالية التي تمتعت بها السلطات الكوردية الحاكمة سواء داخل كوردستان أو خارجها، فقد صنف المؤرخ شرفخان البدليسي الممالك الأيوبية وعدها كأول الدول الكوردية المستقلة، ومن بعدهم صنف حكومات وإمارات كل من: دياربكر والجزيرة وهم المروانيون، ولاة دينور وشهرزور (الحسنوية)، ثم ولاة الأسرة الفضلوية في لورستان، كدول وامارات كوردية مستقلة. ولا يمكن فهم معاييره لهذا التصنيف منذ خمسة قرون، حيث أن تصنيفه هذا قد شمل سلاطين مصر والشام من آل أيوب، وعدهم جميعاً من ضمن الحكام الكورد المستقلين. وسيظل هذا الموضوع اشكالياً في تقبله وتعميمه، لضعف معارفنا التاريخية، ولتدني مستوى معرفتنا بظروف وملابسات هذا التصنيف عند المؤرخ القدير، تحت العنوان العريض التالي: "في ذكر ولاة وحكام كردستان الذين رفعوا راية الاستقلال". (البدليسي، 1962، ص5)
وعلى الرغم من صعوبة فك (لغز الاستقلال) الذي نسبه شرفخان للأيوبيين، لكن تصنيفهم المنهجي – التاريخي بهذه الصيغة، يعد دليلاً على أهمية قيمة الاستقلال السياسي من جهة، وعلى آليات توارث الاستقلال الاجتماعي والسياسي في مناطق واسعة من كوردستان عبر الأجيال والطبقات الحاكمة خلال الزمن المديد. وأخيراً كان دور الملوك الأيوبيون في حماية هذا الاستقلال والمحافظة عليه مهماً. إلا أن السعي الى الاستقلال ظل هدف الزعامات الكوردية منذ تلك المراحل بصيغة أو أخرى.
×××
*فصل من كتاب سيصدر قريباً عن مركز رووداو للدراسات تحت عنوان:
استقلال كوردستان العثمانية بين سيفر ولوزان (1920 -1923)
××××
المصادر والمراجع:
- اسكندر، الدكتور سعد بشير (2008)، قيام النظام الاماراتي في كردستان وسقوطه ما بين منتصف القرن العاشر ومنتصف القرن التاسع عشر. السليمانية، ط2
- بدليسي، شرفخان (1962). شرفنامه. ترجمة علي عوني بك. القاهرة
- توفيق، الدكتور. زرار صديق (2022). كردستان في العهد الجلائري. (1336 – 1411) م. أربيل
- 4- - خليل، الدكتور. أحمد محمود (2011)، مملكة ميديا. أربيل
- يوسف، عبد الرقيب (2001). الدولة الدوستكية في كوردستان الوسطى، الجزء الثاني – القسم الحضاري، ط2، أربيل