RRC | د.آزاد احمد علي |
يبدو أن القصف الأمريكي لقواعد الحشد الشعبي (التابعة لحزب الله العراقي بشكل خاص) نهاية عام 2019 كانت ذات علاقة وثيقة بالأوضاع السياسية والأمنية في العراق، وكذلك بإنسداد آفاق الحل والخروج من المأزق المركب للمسألة العراقية. ولفهم ما حدث اليوم لا يكفي أن ننطلق من أحداث الأشهر الماضية فقط، بل لا بد لتوضيح المشهد وقراءته بدقة أن نستعرض سلسلة الأحداث المترابطة في السنوات والعقود الماضية، كما من الضروري أن نعيد للأذهان التفوق الأمريكي أيضا في صناعة (الأعداء). فلا يمكن لأي مطلع أن لا يقتنع بأن السياسات الأمريكية هي المسؤول الأول لما آلات إليه الأوضاع في المنطقة عموما والعراق على وجهه الخصوص. وما الحدث المفصلي ليلة 2/1/2020 في مطار بغداد إلا حلقة جديدة في مسلسل الصناعة الأمريكية للاضطراب من جهة وللأعداء من جهة أخرى. صحيح أن المجموعة التي قادت أمريكا نحو حرب أفغانستان والعراق قبل عقدين من الزمن لم تعد فاعلة في مراكز القرار الأمريكي، والمقصود بها (مشروع القرن الأمريكي الجديدPNAC ، بقيادة أبرز ثلاثي التنظير للحرب والسيطرة الأمريكية على العالم: ديك شيني، دونالد رمسفليد، بول ولفويتس)، لكن مجمل الأوضاع الأمريكية توحي وكأن فكر المجموعة مازال حاضرا، فلا شك أن تأثير هذا التيار الفكري والسياسي مازال فاعلا داخل كواليس الحزب الجمهوري وإن كان التيار المؤيد لسياسات ترامب الاقتصادوية والبراغماتية السريعة التحول هو السائد حاليا. فكل المؤشرات توحي بتقبل حالة الهجوم على إيران وان لم يكن هذا التيار الترامبوي – إن جاز التعبير – غير راغب في الحرب، ولكنه على ما يبدو غير حكيم لدرجة القدرة على تجنبه. فقد كان تأييد ابرز قادة الجمهوريين ليندسي غراهام صريحا ومباشرا للقرار الذي اتخذه ترامب لضرب موكب سليماني – المهندس، هذا القرار الخطير والحساس لدرجة عدم التصديق على أنه قد صدر بالفعل من ترامب. فمن المفترض أن ترامب المسترخي في عطلته بإحدى المنتجعات كان منتشيا عندما أمر البنتاغون بتنفيذ الضربة الموجعة، بل التاريخية، دون حساب دقيق لتداعياتها الكارثية. إذ تشير كل المعطيات إلى ترجيح العوامل المساعدة على اشتعال الحرب، أو تدفع بالتصعيد إلى أقصى الدرجات:
1- تعزيز موقع الجمهوريين في الساحة الأمريكية، نتيجة فقدانهم لفلسفة حكم وادراة واضحة، خاصة على صعيد السياسة الخارجية وبالتالي هم بحاجة لحركة ومبادرة قوية لزيادة فرصهم الانتخابية وتحسين صورتهم، خاصة بعد قرار مجلس النواب المصادقة على طلب محاكمة ترامب.
2- فقدان الثقة بسياسة الادارة الأمريكية وقرب محاكمة ترامب المفترضة في مجلس الشيوخ تتطلب توحيد صف الجمهوريين وسحب البساط من تحت أقدام الديمقراطيين الذين انتقدوا الضربة بوضوح.
3- التركيز الصامت لوكالة المخابرات المركزية (CIA) في الأشهر الأخيرة على إيران يبين توافق مع البنتاغون تحت إدارة ترامب لأول مرة على ضرب وتكسير عظام نظام الحكم في إيران.
لذلك يبدو مقتل قائد فيلق القدس هي محاولة رمزية لبدء سياسة أمريكية جديدة تجاه إيران ومحاولة جادة لإنهاء دورها ونفوذها الخارجي. وهي دعوة صريحة لضرورة عودة إيران الى بيت الطاعة الأمريكي – الإسرائيلي، كما وهو في الوقت عينه سعي للإخلال بوجود الثنائية القطبية المذهبية والسياسية على ساحة العالم الإسلامي التي تساهم في التأسيس لاضطرابات مستقبلية طويلة الأمد. لذلك تبدو دلالة الحدث عميقة وغير لحظية وان صدرت بما سهوا عن ترامب، فهي تنهي تماما سياسة العصا والجزرة السياسية والاقتصادية الأمريكية ضد إيران، وإنطلاقة للعمل العسكري المباشر.
في الجانب الآخر إن مقتل أبو مهدي المهندس نائب رئيس الحشد الشعبي في العراق يوحي بأن أمريكا قد فشلت في إستراتيجية الاحتواء والسيطرة على العراق، كما هي استباحة للدم العراقي، لهذه الأسباب فعلاقة أمريكا مع الحكومة العراقية ونخبها السياسية ستضطرب كثيرا وستدخل مرحلة جديدة، تتجاوز قتل قادة وعناصر الحشد الشعبي، بل تضع كل العلاقة الأمريكية مع النخب الشيعية الحاكمة وخاصة حزب الدعوة والتيار الصدري أدراج الرياح والعواصف القادمة، وربما تنتهي العلاقة الأمريكية بعد إفراغ السفارة في بغداد بالانقلابات العسكرية والاحتلال المباشر لبعض مناطق العراق.
عملية تدمير موكب سليماني من الناحية التقنية ترسل أيضا رسائل ذات مغزى، فالرواية الأمريكية تقول بأنه كان ذاهبا للعراق لتنظيم عملية ضرب المصالح والعناصر الأمريكية، في حين الرواية الحكومية الإيرانية تردد بأنه كان ذاهبا لتهدئة الأوضاع وتتهم أمريكا باغتياله رغبة في التصعيد. أما المؤكد فهو أنه كان مراقبا وفي متناول اليد، لأنه من الناحية التقنية الصرفة لا يمكن تنفيذ العملية فيما لو تم معرفة وجود سليماني في مطار بغداد، فالزمن اللازم للتحضير للعملية وأخذ موافقة ترامب، والترتيبات العسكرية تتطلب عدة ساعات على أقل تقدير. معنى ذلك أنه تم رصد حركة سليماني من مطار دمشق، أو حتى قبل ذلك بوقت طويل، ما يوحي بفعالية دور الاستطلاع والحركة الجوية، وبالتالي تثير الشكوك حول دور روسي لأنها المهيمنة على أجواء دمشق، وربما كانت إسرائيل على معرفة بحركة طائرة سليماني على أقل تقدير. ومن جهة تكنولوجية صرفة، تدمير موكب سليماني بواسطة طائرة مسيرة (درون)، هي رسالة من نوع آخر لإيران وحلفائها تفصح عن أن التكنولوجيا العسكرية الأمريكية قد وصلت الى هذه الدقة بحيث لم تكلفها حتى استخدام عنصر بشري واحد في تنفيذ العملية بشكل مباشر، وإنما كان الدور الأساسي لتقنية المعلومات وتكنولوجيا توجيه الأسلحة الحديثة الفتاكة، بالتالي لدى أمريكا ما يكفي من تقنيات الحرب لشل حركة هذه الدولة أو تلك.
باختصار لقد اتخذت إدارة ترامب الموحدة في رأيها لأول مرة مع البنتاغون والاستخبارات المركزية قرار الحرب على إيران، لكن اتساع وشدة هذه الحرب سيكون قرارا إيرانيا صرفا، مرهونا بطريقة الرد وديمومته. فان سادت الحكمة المدنية الإيرانية بدبلوماسيتها الصبورة فعلى الأرجح ستكون الحرب محدودة ويعود الصراع الى سويته السياسية السابقة، أما إذا استند القرار وانبثق من عواطف الملالي والعقلية الانتقامية الضيقة للشيعية السياسية فستكون حربا طويلة ومدمرة.