أعادت التظاهرات الأخيرة في العراق تركيز الأنظار على مكانة المرجعية العليا الشيعية في سياسة البلد. ترى ما هو دور المرجعية في السياسة العراقية أساساً؟ أين المرجعية من التظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية؟ والأهم من هذا هو ماذا سيحل بهذه المؤسسة في مرحلة ما بعد آية الله السيستاني؟
نظم مركز رووداو للدراسات في 28 تشرين الثاني 2019 ندوة حول هذه المسائل شارك فيها ثلاثة متخصصين بارزين في السياسة الشيعية، وهم: د. علي مدن، د. طاهر علي حمود، ود. علي المعموري.
تحدث د. علي مدن في بداية الندوة عن أن مرجعية النجف ذات تاريخ طويل يمتد لألف سنة لكن المرجعية العليا ظهرت منذ 60 سنة فقط، أما مرجعية قم فعمرها 100 سنة فقط، وأكد مدن على المكانة الهامة لحوزة النجف في العالم الشيعي وقال: حوزات العراق عموماً لا تتبع المرجع الإيراني. ثم أشار إلى المسار التاريخي لتنامي أثر المرجعية، وتحدث د. علي مدن عن وجود صراع بين الأحزاب السياسية الشيعية وبين المرجعية وقال: تعد الأحزاب نفسها منافساً للمرجعية.
في فترة حكم البعث، لم يكن مسموحاً بدور يذكر للمرجعية، لكن أصبح للمرجعية بعد 2003 تأثير مباشر على الأحداث. يقول د. علي مدن، الذي ركز في كلامه على دور المرجعية العليا في ما يجري بين الدولة والمتظاهرين، وتحدث عن رؤية السيستاني للسياسة والدولة وقال: “من وجهة نظر المرجع الأعلى، يجب أن لا تكون للفقيه علاقة بالدولة والسياسة ولا يجوز له أن يتولى الحكم. فمن وجهة نظر السيستاني، ليس للفقيه ولاية عامة على الناس بل يقتصر دوره على النصح والإرشاد. لهذا فإنه لا يتدخل في السياسة. فقد تدخل السيستاني فقط في المسائل المصيرية مثل مسألة الدستور عندما قال إنه يجب أن يكتب من قبل العراقيين أنفسهم. كما أنه لا يدعم أي قائمة أو أي حزب معين. بل أن الأحزاب الشيعية هي التي تزعم أنه يساندها والأمر ليس كذلك. كما أنه أصدر فتوى الجهاد الكفائي ضد داعش”.
ويعتقد د. علي مدن أن السيستاني يرى أن المسؤولية السياسية هي مسؤولية المجتمع ويتدخل فقط عند الحاجة إلى تدخله ولا يتدخل في أي شيء يفعله المجتمع. كما قال: “فيما يخص التظاهرات، أراد أولاً عدم التدخل، لكنه تدخل عند زيادة اللجوء إلى العنف. يرى البعض أنه يتدخل لحماية أتباعه، ويقول البعض إن هذا يأتي على أساس المصلحة وهو لا يريد أن يؤيد أحد الطرفين. لكن رؤيته واقعية. إنه ينتظر الناس ليرى ماذا يقولون، وماذا يريدون، ثم يؤيد موقف الشعب. تقول المرجعية إن النخبة السياسية الحاكمة لا تستطيع أو لا تريد إصلاح الوضع. المرجعية ترى أن على الدولة أن تحمي المتظاهرين.
وفيما يخص مرحلة ما بعد السيستاني، يعتقد علي مدن بأن لا أحد يعلم ماذا سيحل بالمرجعية بعد السيستاني. يتم اختيار المرجع بناء على عدد من المعايير. كالمستوى الدراسي العالي. الدراسة الأكثر وتأييد أساتذة الحوزة. كذلك هناك حاجة إلى علاقات مع التجار الشيعة وإلى أن يكون معروفاً أكثر في حوزة النجف. كما يجب أن يحترم القوانين والقيم ويكون مدركاً لكل المشاكل. هناك أسماء مقترحة لخلافة السيستاني، لكن ليس معلوماً من سيخلفه. فقد ذهب السيد عبدالسلام والسيد الصدر ومحمد روحان إلى قم، لكنهم ليسوا مراجع في النجف. المعلوم هو أن المرجعية ستبقى في النجف بعد السيستاني. كما سيكون للمرجعية نفسها دور في تحديد خليفتها، وسيكون لجواد الشهرستاني في قم والسيد الكشميري في لندن دور في الموضوع، كما ستتدخل أطراف سياسية كإيران في هذه المسألة وسيكون لها دورها.
د. علي طاهر حمود، أستاذ علم النفس السياسي في بغداد، مثل د. علي مدن، درس لفترة في الحوزة، وقد تحدث خلال الندوة عن الرؤية الخاصة بالدولة من وجهة نظر علماء الشيعة وحاول ربط هذه الرؤية بالأوضاع الحالية، فقال: “يؤمن كل العلماء الشيعة بولاية الفقيه، لكن آراءهم مختلفة فيما يخص سلطاته. فبعضهم يعتقد بالولاية المطلقة كالإمام الخميني الذي أفتى بعد مقتل الحجاج في السعودية بأن لا يحج الإيرانيون. كذلك يفتي خامنئي كولي مطلق. أما أبو القاسم الخوئي، فيرى أنه لا سبب في العصر الحالي يخول الفقيه صلاحيات شمولية، بل يجب أن يركز على الفتوى والإشراف على الأوقاف. فسلطاته محدودة ولا يستطيع أن يفتي بحل الحرام أو بالعكس. كما لا يستطيع التدخل في السياسة. هذه الفكرة تعرف بالولاية الجزئية وقد اعتمدها أشخاص كمحمد باقر الصدر. المراجع منقسمة بين الولاية المطلقة والولاية الجزئية. السيستاني يتبع مدرسة الخوئي. أجرى السيستاني بعض التغييرات في مسائل الفتوى والأوقاف والميراث. فهو يرى أن من الممكن التدخل في الشؤون العامة في بعض الحالات مثلاً إن كان الأمر يتعلق بحياة الناس وبمستقبل البلد. يرى السيستاني أن الفقيه لا يبادر للتدخل إلا إن طلب منه الشعب. كما أنه لا يفرض نفسه، وهو لم يتدخل حتى الآن إلا في مسألة الدستور وفتوى القتال ضد داعش. كما أشار مرة على قيادات الدعوة بضرورة تغيير رئيس الوزراء.
واتفق د. حمود مع د. مدن فيما يخص رؤية الأحزاب السياسية الشيعية للمرجعية، وقال: “الأحزاب الشيعية تريد للمرجعية أن تكون سياسية وتعتبرها منافساً لها. كما حصل في مسألة التظاهرات حيث أنها بدأت تضغط على المرجعية للتدخل أكثر في التظاهرات”.
وعن مرحلة ما بعد السيستاني، قال د. حمود: “مسألة من الذي سيكون المرجع في المستقبل تعتمد على من الذي يتوفى أولاً، السيستاني أم خامنئي، كما أن هناك عوامل أخرى كالعلاقة مع التجار الشيعة والعلاقات العائلية، والمكانة في الحوزة العلمية. كما سيكون للأحزاب والمخابرات الإيرانية والإعلام دورهم. لكن من المستحيل أن تعتمد النجف مدرسة الولاية المطلقة، وبقاء المرجعية في النجف مفروغ منه. بصورة عامة، يعتمد أغلب علماء النجف مدرسة الولاية الجزئية لأنهم تلاميذ الخوئي. أما مرجعية الشيرازي في كربلاء فتؤمن بشكل ما بمدرسة الولاية المطلقة لكن في صورة مجلس شورى. لكن من الصعب اعتماد مدرسة غير مدرسة السيستاني.
كان د. علي المعموري آخر المتحدثين، وهو أستاذ في جامعة سيدني وباحث في معهد واشنطن. بدأ المعموري بالقول: “المرجعية الشيعية في النجف مؤسسة ذات سلطة روحية واجتماعية. فالمرجع يرى أن له سلطة على الآخرين، لكنه لا يعمل من منطلق سلطوي كالذي نجده في ولاية الفقيه. بل يرى أن له سلطة روحية ومكانة اجتماعية، ولهذا يقدم كلما أمكن، المشورة للأطراف المؤثرة وصاحبة النفوذ في السياسة والمجتمع. فالمجتمع في الأخير يعرف أين تكمن مصلحته، وعليه أن يتخذ قراراته ويقرر مصيره بنفسه. عند سقوط النظام البعثي في العراق في 2003، استطاعت المرجعية الدينية في النجف ممارسة دور مؤثر في السياسة العراقية، لكن ذلك كان في أغلبه من خلال إبداء المشورة، ولم يكن فيه إصدار لأوامر وفرضها. ما يجري في التظاهرات الحالية أمر مشابه. لهذا فإن السيد السيستاني يؤيد مطالب الشارع ويحاول إسداء النصيحة للحكومة. منذ أن تأسست مؤسسة المرجعية قبل نحو ألف سنة على يد الشيخ الطوسي في مدينة النجف المقدسة، كان هذا دورها. لذا فإن المراجع الدينية منذ ذلك الوقت إلى اليوم، تتعامل مع الوضع القائم، إن كانت الأوضاع السياسية محكومة بنظام ملكي أو سلطنة أو ديمقراطية أو انقلاب أو أي صورة أخرى من صور الحكم، فإنها تتعامل على أساس الوضع القائم وتحاول التوصل إلى ما يخدم المصلحة العامة. هذا لا يعني أنها تذعن لهذه الأنظمة، بل تسعى من خلال تعاملها مع تلك المؤسسات إلى تحقيق مطالب المجتمع. في الواقع، هيأت التظاهرات البيئة الملائمة للمرجعية في النجف لتواصل تقديم النصيحة وتطالب بصورة أقوى من ذي قبل بتحقيق المصلحة العامة، ولهذا فإن المرجعية تطالب منذ سنوات بإجراء الإصلاحات والقضاء على الفساد، وقال قبل سنتين لقد بح صوتنا من كثرة تكرار نصائحنا هذه، لكننا لم نجد أي تعامل إيجابي من جانب الحكومة. لذا، وبعد كل هذه الأمور انطلقت هذه الاحتجاجات وكانت المرجعية قد حذرت منها في وقت سابق وقالت إن لم تقدم الحكومة على إصلاحات حقيقية فستعم العراق احتجاجات شاملة، وقد تحقق ما توقعته. منذ بدء الاحتجاجات في الأول من أكتوبر وإلى الآن، نجد أن السيد السيستاني يؤيد المتظاهرين، ويؤيد مطالبهم المشروعة، ويحث الحكومة على تلبيتها. فهو بخلاف بعض الأطراف الأجنبية، والأطراف المرتبطة بتلك الأطراف الأجنبية، لم يتهم المتظاهرين بالارتباط بجهات أجنبية وبالتآمر، بل تعامل مع التظاهرات على أنها تظاهرات جماهيرية. في الأخير، على الحكومة أن تتقبل مطالب المتظاهرين، وإذا اتجهت الأمور باتجاه العنف، من خلال أطراف تندس بينهم أو نتيجة إجراءات حكومية غير حكيمة قد تدفع المتظاهرين إلى ممارسة العنف، هناك مخاوف حقيقية من وقوع نوع من الاقتتال الداخلي في العراق أو تحول السلطة في العراق إلى نوع من الأنظمة الدكتاتورية التي قضينا عليها في 2003. أما بخصوص مرحلة ما بعد السيد السيستاني، فهناك حالة من عدم الوضوح بشأن هذه المؤسسة وكيف ستستمر، لكننا عموماً نرى أن لمؤسسة النجف حصانة قوية في الداخل”.