مقدمة
تتردد في هذه الأيام تصريحات متباينة بشأن الانتخابات. فقد قال نوري المالكي إن عدم المشاركة يعني الاستسلام للشيطان، بينما أطلق عليها هادي العامري اسم "معركة البقاء". وتحدث قيس الخزعلي عن "مشروع خطير للعراق" وقال إن الناس يمكن أن يشاركوا، على النقيض تماماً من دعوة مقتدى الصدر للمقاطعة. أما في جبهة السوداني فهناك نغمة أخرى، إذ يطلب من الناخبين السماح له بـ"إتمام أعماله التي لم تكتمل بعد". في نهاية المطاف، تهدف هذه الشعارات إلى جذب الناس إلى صناديق الاقتراع، وهو ما قد يشكل أحد أكبر عقبات الانتخابات الحالية، لكن ذلك ليس كل شيء! فالقضية الأساس هي أن العراق يتجه نحو الانتخابات في ظل حالة من عدم اليقين الستراتيجي.
في المدى القصير، على الأقل سيحدد العام المقبل إن كان الوضع سيتحسن أم سينجرف نحو عدم استقرار جديد. هذا يشكل اختباراً مهماً لمعرفة ما إذا كان العراق سيتجه نحو مزيد من التعقيد بعد الانتخابات بسبب الأوضاع الداخلية وتداعيات التوترات والمواجهات الإقليمية، أم أنه سيجتاز هذه المرحلة سالماً.
هل ستكون فكرة "العراق أولاً" رائجة في ظل التعقيدات؟
قد يكون شعار "العراق أولاً"، الذي يبدو أن السوداني استعاره من ترامب، مفيداً في الانتخابات، لكن من الصعب أن يصمد في مواجهة التعقيدات المتوقعة المقبلة. يحمل هذا الشعار فكرة مفادها أن بغداد تستطيع أن تفكر أولاً في مصلحتها الذاتية في تعقيدات المنطقة، كإشارة إلى الحياد. وكان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قد صرح سابقاً بأنه خلال الحرب الإسرائيلية الإيرانية التي استمرت 12 يوماً، منع 29 مرة هجمات بطائرات مسيرة وصواريخ من الجماعات المسلحة العراقية على إسرائيل، لمنع وصول نار الحرب إلى بغداد. ورغم أن رئيس الوزراء قد يختلف في هذا الموضوع، كما في موضوع التعامل مع أحمد الشرع، مع الجماعات المسلحة وبعض القيادات الشيعية الأخرى مثل نوري المالكي وقيس الخزعلي، إلا أن إبعاد العراق عن حرب الـ12 يوماً كان على الأرجح نتاجاً أمريكياً - إيرانياً وليس مجرد رغبة عراقية. فمن الأساس، لم يكن لدى الأطراف الرئيسة نية نقل الحرب إلى الأراضي العراقية، بل أراد الطرفان استخدام مجاله الجوي. فإسرائيل أرادته للطائرات وإيران لإطلاق الصواريخ. لكن يبدو الآن، في ظل الحديث عن احتمالات الحرب وعدمها، أن أهمية الأراضي العراقية قد ازدادت في ستراتيجية مختلف الأطراف، وهو ما يجعل مهمة رئيس الوزراء المقبل أكثر صعوبة.
عاد فرض العقوبات الست لمجلس الأمن الدولي على إيران، وهذا في أبسط معانيه - إذا تم تطبيقه بصرامة - يعني وضعاً اقتصادياً صعباً، وصعوبة في بيع النفط والحصول على الدولار وشراء الأسلحة. ونظراً لوجود طالبان في الشرق وأذربيجان الحليفة لإسرائيل في الشمال، فقد اكتسب العراق الغني بالنفط أهمية أكبر جداً لطهران، لكن العراق خاضع أيضاً لرقابة أمريكية مشددة؛ فقبل أيام فرضت واشنطن عقوبات على شركة المهندس والعديد من مديري المصارف العراقية بذريعة تقديم الدعم المالي لإيران. وقد سبق أن قيدت خدمات الفيزا كارد والماستر كارد لبعض المصارف العراقية بنفس الذريعة. وتحدثت عن عدم السماح لإيران بتهريب النفط وبيعه عبر العراق. ومع ذلك، يبقى العراق من بين الفرص الأخيرة لإيران، ومن غير المرجح أن تتخلى عنه بسهولة رغم الضغط الأمريكي. فبالإضافة إلى أهميته الاقتصادية في ظل العقوبات، ازدادت أهمية العراق كمغبر في الستراتيجية الإيرانية الجديدة.
بشكل عام، يبدو أن الخطوط الرئيسة للسياسة الإيرانية بعد حرب الـ12 يوماً هي: مواصلة التعاون مع الصين وروسيا، وتعزيز شبكات العلاقات الإقليمية، والتمسك بالعراق، وإيجاد حل للحرب الصاروخية.
قال المرشد الإيراني إن مشكلتهم مع أمريكا ليس لها حل، وأن الذين يطالبون بالحوار ينظرون للأمور بسطحية. ويبدو أن هذا رفض لأقوال التيار الإصلاحي وأشخاص مثل الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني الذي قال إن تقليل التوترات مع أمريكا "واجب". في نفس الوقت، عين الرئيس الإيراني علي لاريجاني أميناً للمجلس الأعلى للأمن القومي، الذي يعدّ أحد مهندسي التوجه الإيراني نحو الشرق، مثل دوره المميز في اتفاقية الـ25 عاماً بين الصين وإيران، أو اتفاقية الـ20 عاماً التي وقعتها طهران وموسكو.
إن إقالة علي أكبري أحمديان وتعيين لاريجاني مكانه، وكذلك تعيين علي شمخاني وسعيد جليلي في مجلس الدفاع، قد تكون إشارة إلى أن إيران في سياستها الداخلية، تولي اهتماماً للجناح الأصولي المتشدد في النظام، والذي قد يكون سعيد جليلي أحد ممثليه، بدلاً من الاستماع للإصلاحيين. على المستوى الستراتيجي العسكري، بالإضافة إلى حديث الإيرانيين عن مواصلة تخصيب اليورانيوم وزيادة مديات صواريخهم، قد يولون هذه المرة اهتماماً أكبر للستراتيجيات البرية والبحرية، بغض النظر عما إذا كانت الحرب ستندلع أم لا. فعلي شمخاني له سابقة في قيادة القوات البحرية الإيرانية، وعلي لاريجاني أحد قادة الحرس الثوري السابقين وولد في النجف! وقام لاريجاني بزيارته الخارجية الأولى بعد توليه منصبه إلى العراق ولبنان. أما رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف، وهو عسكري سابق، فقال إننا إذا لم نقاتل إسرائيل في الجولان يجب أن نقاتلها في جلولاء، وتحدث علي لاريجاني في مقابلة عن أنهم لا يصنعون جماعات المقاومة لكنهم يدعمونها. وهذا يظهر في الواقع أن أهمية العراق وإقليم كوردستان في الستراتيجية الإيرانية كبيرة. من جانبه، توعّد بنيامين نتنياهو علناً في اجتماع الأمم المتحدة قيادات الجماعات المسلحة في العراق إذا ما هاجموا إسرائيل بحسب قوله.
تخوف العراق من سوريا؛ استقواء العشائر واحتمال عودة داعش
بدأت وزارة الدفاع الأمريكية في أواخر أيلول من هذا العام بنقل قواتها في العراق والانسحاب نحو إقليم كوردستان. هذا من جهة عزز موقف السوداني أمام خطاب الجماعات المسلحة التي كانت تشترط عليه خروج أمريكا. في نفس الوقت، قد يُطلق يد الجماعات القريبة من إيران للتحرك بحرية أكبر من السابق. قالت أمريكا إنها تقوم بانسحاب مسؤول من العراق، كإشارة إلى الانسحاب المثير للجدل لقواتها من أفغانستان والذي انتقده ترمب مراراً. هذا قد يلفت الانتباه إلى احتمال بروز سني جديد في العراق، خاصة بعد أن بدأت سلطة إسلامية - سنية تثبت أقدامها على الجانب الآخر من حدود العراق. أيضاً، أحدثت أمريكا تحولاً كبيراً بانتقالها من الحرب على الإرهاب إلى البحث عن طريقة للتعاون مع من كانت تسميهم إرهابيين. ففي أفغانستان، هناك صفقة قاعدة "باغرام" الجوية مع طالبان، ومع الجولاني هناك برنامج لمنع النفوذ الإقليمي الإيراني، وهذا أثار قلقاً لدى المسؤولين الشيعة في العراق.
من جهة أخرى، فإن هجوم آلاف المسلحين من القبائل البدوية السورية على السويداء في تموز من هذا العام، له صلة بالعراق بقدر ما هو شأن داخلي سوري، لأن قسماً منهم لهم أقارب في العراق. هذا بالإضافة إلى أنه قد يُنظر إليه كنموذج جديد لعودة السنة للبروز سياسياً، وقد عين الرئيس السوري مؤخراً "أبو أحمد الزكور"، القيادي السابق في هيئة تحرير الشام، كمستشار له لشؤون العشائر، وهو ما قد يكون إشارة إلى مأسسة دور العشائر في سياسة سوريا الجديدة. لقد استُخدمت العشائر في الشؤون الداخلية مثل الضغط على الحسكة والدروز لصالح الشرع، لكن ماذا يعني هذا بالنسبة للعراق، خاصة إذا استخدمته دمشق يوماً ما في السياسة الخارجية أيضاً.
بالإضافة إلى مسألة العشائر، لا يزال داعش يمثل خطراً كبيراً على العراق. لا يزال هناك حوالي 1500 مقاتل من داعش في العراق وسوريا، وآلاف آخرون في السجون السورية. يبقى نحو 30800 شخص من سجناء وعائلات داعش في مخيمي روج والهول تحت سيطرة قسد، منهم 8072 عراقياً، بالإضافة إلى أعداد أخرى أُعيدت في الفترة الماضية. العراق أقل قلقاً من سوريا الحالية لكنه قلق من المستقبل سواء من داعش أو من العشائر، لذلك بدأ ببناء جدار على حدوده مع سوريا ويراقب الوضع بحذر. وعلى المدى القصير، مصير قسد أيضاً مهم ومعلق. فأسئلة مثل: هل ستحمي قسد باسم آخر كل أو جزءاً من حدود سوريا، الأمر الذي يطرح الآن كحل وسط بين حل قسد وإبقائها، أم ستندمج بشكل آخر في الجيش السوري، هل ستنشأ قوة عسكرية للعشائر البدوية أم لا. هذه أسئلة قد يتوق العراق للحصول على إجابات عليها.
خاتمة
الخوف والقلق من تأثير الأحداث الإقليمية على العراق، وظاهرة السوداني ومقاطعة الصدر، من بين أهم الموضوعات التي قد توجه نتائج الانتخابات، والتي قد تكون محل اهتمام الفاعلين الإقليميين والدوليين. من إجمالي 29,450,000 ناخب في العراق، يحق لـ21,404,291 شخصاً فقط التصويت، لكن عدد من حصلوا على البطاقة البايومترية هو حوالي 19 مليون شخص. أي أن 10 ملايين و450 ألف ناخب لن يشاركوا في الانتخابات أصلاً. هذا بالإضافة إلى أنه لا يزال غير واضح أي نسبة من الـ19 مليون المتبقية ستشارك. إذا لم يشارك بشكل عام حوالي مليون شخص بسبب الصدر، وبلغت نسبة المشاركة حوالي 50% - وهو ما قد يكون توقعاً مفرطاً في التفاؤل - فإن النتائج ستمثل شخصاً واحداً فقط من كل ثلاثة أشخاص، وهذا قد يكون عقبة كبيرة في طريق النظام السياسي. النقطة الثانية هي كيف ستواجه الجماعات الشيعية التقليدية السوداني، الذي أتوا به في البداية كواحد منهم وأصبح الآن يُنظر إليه كمنافس مهم. فقد أفلس جزء من الجماعات الشيعية التقليدية في 2021 بسبب مخالفتهم الصدر، وقد يصهر السوداني جزءاً آخر منهم هذه المرة، لكن ذلك لا يعني أنه يستطيع أن يصبح رئيساً للوزراء بسهولة.
ليس فقط للجماعات الشيعية بل للكورد والسنة أيضاً في الداخل، وكذلك لتركيا وإيران وإسرائيل وأمريكا وأوروبا والخليج، من المهم معرفة من سيصبح رئيساً للوزراء. قد يبدو المناخ الحالي لصالح السوداني، لكنه بلا شك سيواجه فيتو منافسيه الشيعة حتى لو كان لديه دعم دولي كبير. لذلك ليس بعيداً التنبؤ بمفاوضات شاقة حول منصب رئيس الوزراء المقبل إذا لم تخرج نتائج غير متوقعة من الصناديق. بالطبع مهما كانت نتائج الانتخابات والمفاوضات بعدها، فإن عدم يقين أكبر يبدو في مستقبل العراق.