مُنذ أكثر من عقد، وتعاني المنطقة الكوردية في سوريا من سلسلة تحوّلات عميقة طالت البنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ورغم سياسات التفقير والتجهيل التي نفذها حزب البعث خلال فترة حكمه. لكن هذه التحوّلات أخذت منحى آخر مع اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011، تلاها تغيير في أنماط السيطرة والسلطة، وتعمّقت بعد سقوط النظام السوري في نهاية عام 2024. والمؤسف أنه بدلاً من التحول نحو مرحلة الاستقرار والانتعاش الاقتصادي. دخلت المنطقة في موجة جديدة من التدهور الاقتصادي، وتراجع سبل العيش. ما جعل الأسر الكوردية أمام اختبار حقيقي للبقاء والتكيّف في واقع هشّ ومفتوح على احتمالات متعددة.
في ظل غيّاب سياسات اقتصادية واضحة، وازدياد مستويات البطالة والفقر، وانهيار قيمة العملة المحلية. لجأت الأسر إلى استراتيجيات جديدة للتكيّف مع الواقع. بعضها تمثّل في تعديل أنماط العمل أو الاعتماد على شبكات الدعم العائلية، وبعضها الأخر في الهجرة أو إعادة توزيع الأدوار داخل الأسرة. هذه التحولات لم تقتصر على الجانب المعيشي فحسب، بل تمتد لتؤثر في البنية الاجتماعية والسياسية، وفي موقع الأحزاب الكوردية، وقدرتها على حشّد التأييد الشعبي في المرحلة المقبلة.
أولاً: التغيرات في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بعد نهايات 2024
منذ أواخر عام 2024، شهد الاقتصاد المحلي اضطراباً متزايداً. من حيث تراجع قيمة الأجور الحقيقية مع ارتفاع الأسعار، وتدهور القدرة الشرائية نتيجة ندرة المواد الأساسية، وغياب الدعم المركزي، وتأرجح قيمة الليرة السورية أمام هبوط وارتفاع سعر الدولار الأمريكي. زاد الوضع سوءً الجفاف وتراجع إنتاج القمح إلى تقليص اعتماد الأسر على الزراعة، ما أفقد آلاف العائلات مصدر رزقها الأساسي، المعتمد على الزراعة، وقسم كبير منهم حول أرضه الزراعية إلى مقاسم وبيعها، ما قلص المساحات الزراعية لحساب بناء المزارع والفلل ضمن الأراضي الزراعية.
هذا الواقع، عمق من اعتماد الاسر على المساعدات الإنسانية والتحويلات المالية من الخارج. خاصة وأن عشرات الألاف من الشباب، وبعد استقرار أولي في إقليم كوردستان وتركيا، توجهوا صوب أوربا، محاولين تأمين دخل يعين أسرهم على الاستمرار. لكن هذه التحويلات بقيت غير مستقرة، وعمّقت الفجوة بين الأسر التي لديها فرد مهاجر والتي لا تمتلك خيارًا مماثلًا، أو لا يستطيع أبناؤها إجراء التحويلات بشكل منتظم.
إضافة أن قرار الرئيس الأمريكي "ترامب" بتوقف تمويل العمل الأنساني والمنظمات الدولية في شمال شرق سوريا، الحق الضرر بعشرات الآلاف من الموظفين الدائمين، والمياومين، ومُيسري الجلسات الحوارية، والمنظمات المحلية الغير حكومية.....إلخ والتي في مجملها كانت تعتمد على التمويل لتغطية نفقات الأنشطة والمشاريع وكتّلة رواتب الموظفين.
ثانياً: مصادر الدخل والأنماط الجديدة للعمل
بعد عام 2024 اتبعت الأسر استراتيجيات متنوعة لتأمين دخلها ، لكن أغلبها اتسم بالهشّاشة وقصر الأمد، ومنها على سبيل المثال:
1- العمل غير الرسمي: وتشمل فئة العمال اليوميين، والعاملين في المهن المؤقتة، والمحال الصغيرة والبناء، في ظل غياب عقود أو ضمانات لعملهم.
2- الحوالات الخارجية: وهي شريان الحياة، لكنها غير كافية، ولا يمكن ضمان باستمرارها، ولا تشمل جميع الاسر المحتاجة.
3- العمل في قطاع الزراعة: وهذا القطاع يعاني من ضعف البنية التحتية، وبدائية أنظمة الرّي، وارتفاع تكاليف الزراعة، وانخفاض وارد المحاصيل الزراعية، ما دفع الناس إلى انسحاب تدريجي من القطاع الزراعي.
4- عمل النساء من المنازل: برزت أنشطة صغيرة من داخل المنازل (صناعة الأغذية التقليدية، المربيات، الخياطة، التسويق الإلكتروني، الأعمال اليدوية، خدمة التوصيل -دليفري) لتغطية جزء من احتياجات الأسرة.
ويُمكن استنتاج أن ما حصل في المنطقة الكوردية من أشكال جديدة للاقتصاد، ليست سوى انتقال تدريجي من الاقتصاد المنظّم إلى اقتصاد البقاء، وهذا ما يعكس غياب رؤية اقتصادية مركزية ويفتح الباب أمام مزيد من التفاوت الاجتماعي.
ثالثاً: التضامن العائلي والاجتماعي كشبكة أمان
مع تراجع المؤسسات الرسمية. اعتمدت الأسر الكوردية على آليات التضامن الاجتماعي التقليدية. فالعوائل ذات الأملاك والموارد المالية الدائمة من الأعمال والتجارة على سبيل المثال، أو المستفيدة من شبكة علاقاتها مع السلطة، حصلت على أدوار كإطار اقتصادي واجتماعي أساسي. أو تلجأ الأسر والعوائل لنوع أخر متمثل في اجتماع الأبناء المتزوجون في منزل واحد لتقليل النفقات، وتتقاسم العائلات الموارد الغذائية والسكنية. إضافة إلى أنتعاش بعض أشكال الدعم المجتمعي من منظمات محلية ولجان خيرية صغيرة، لكنها بقيت محدودة في نطاقها الجغرافي ولا تفي بالاحتياجات العامة. هذه الروابط الاجتماعية، تُعد عاملاً حاسماً في منع الانهيار الكلي للبنية المجتمعية، لكنها أيضاً تكشف حدود قدرة المجتمع المحلي على التعويض عن غياب السياسات العامة.
رابعاً: تحوّلات داخل الأسرة ودور الشباب والمرأة
وجد الشباب أنفسهم أمام مفترق طرق بين البطالة والبقاء، أو الهجرة والمخاطرة. ومع ارتفاع نسبة الهجرة الذكورية، تسبب بترك فراغ عميق داخل المجتمع المحلي، وألقى بأعباء إضافية على النساء وكبار السن لإدارة شؤون الاسرة. ما عنى ذلك تغيّر دور وأنماط عمل المرأة بشكل واضح خلال العام الماضي. حيث تسببت الأزمات الاقتصادية بدفعها لسوق العمل، والمساهمة في الدخل الأسري، سواء عبر المشاريع الصغيرة أو المهن المنزلية، ما منحها هامشاً جديداً من الاستقلال الاقتصادي، لكنه بقي محاطاً بقيود اجتماعية.
خامساً: النزوح والهجرة كآلية للتكيف
تسببت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والخلافات السياسية، والخوف من حربٍ جديدة، تسببت بتصدر خيار الهجرة لصدارة أولويات الكثير من الأسر. بعضهم غادر إلى المدن الكبرى داخل سوريا، فيما أختار آخرون التوجّه نحو كوردستان وأوربا وتركيا. هذه الحركة المستمرة، تسببت بجعل الاقتصاد المحلي يعتمد على التحويلات، لكن في الوقت نفسه أضعفت البنية السكانية المُنتجة، وقللت من راس المال الاجتماعي المحلي. وبالنتيجة كانت تآكلاً تدريجياً في قدرة المجتمعات المحلية على العمل الجماعي، وانكفاءً نحو مصالح فردية أو عائلية ضيقة.
سادساً: التأثيرات السياسية للهجرة والوضع الاقتصادي على الأحزاب الكوردية
تواجه الأحزاب الكوردية واقعاً مختلفاً بشكل جذري عن السنوات السابقة. فالقواعد الاجتماعية التقليدية، لم تعد مستقرة، والولاءات السياسية باتت متأثرة مباشرة بالأوضاع المعيشية. والاسر التي كافحت لتامين أساسيات الحياة، أصبحت أقل اهتماماً بالخطابات الأيديولوجية، وأكثر ميلاً لتأييد من يقدّم حلولاً اقتصادية ملموسة.
تزايد معدلات الفقر والهجرة يُهدّدان المشاركة السياسية، ويُقلصان من قدرة الأحزاب على حشد الجماهير في الانتخابات المقبلة. كما أن التفاوت الاجتماعي الجديد، قد يعيد رسم الخريطة الانتخابية داخل المجتمع الكوردي، لمصلحة من يمتلك أدوات الدعم والخدمات المباشرة.
سابعاً وأخيراً:
تُعتبر تجربة الاسر الكوردية في سوريا، من حيث الجانب الاقتصادي، مثالاً صارخاً على قدرة المجتمعات على إعادة ابتكار أدوات البقاء في مواجهة الانهيار الاقتصادي والمؤسسي. لكنها في الوقت ذاته، تكشف هشاشة هذا التكيّف عندما يعيب الدعم المنهجي والسياسات طويلة الأمد. فالاعتماد على التضامن العائي والهجرة، لا يمكن أن يشكّلا بديلاً دائماً عن التنمية الاقتصادية والإصلاح الإداري.
لهذا فإن مستقبل المنطقة الكوردية سيُحدد بمدى نجاحها في تحويل هذه الأساليب المؤقتة إلى مسارات تنموية مستدامة، تُعيد بناء الثقة بين المجتمع والأطراف السياسية، وتضمن مشاركة أوسع للنساء والشباب في صياغة المستقبل.
وفي الأخير، فإن أهم النقاط التي يجب الأخذ بها لتحسين الأوضاع المعيشية، هي:
1- إطلاق برامج دعم اقتصادي موجهة للمناطق الزراعية، وذلك عبر توفير البذور والأسمدة والقروض الصغيرة.
2-تشجيع المشاريع النسائية الصغيرة: عبر منح وتمويل متناهي الصغر وتدريب إداري.
3- إقامة شبكات حماية اجتماعية محلية: بالتعاون بين المجالس المحلية والمنظمات المدنية غير الحكومية.
4- تحسين بيئة العمل للشباب: عبر برامج تدريب مهني وربطهم بفرص تشغيل حقيقية.
5- تبني سياسة حزبية جديدة: تُراعي أولويات المعيشة اليومية للناس، وتربط بين البرامج الاقتصادية والمشاركة السياسية.
6- تشجيع البحث الميداني المستمر: لرصد تحولات المجتمع الكوردي وتحسين الأوضاع الاقتصادية للسكان في المناطق كافة.