بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على أداء أعضاء مجلس النواب اليمين، وسبعة أشهر على الانتخابات النيابية المبكرة، ارتفع من قبة البرلمان العراقي في يوم (26 أيار 2022) الدخان الأبيض الدال على تمرير “قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل”، لكن القانون في أغلبه عبارة عن شعارات ويتناول مشكلة افتراضية. يأتي هذا بينما يفتقر العراق، رغم عائداته المقدرة بـ150 مليار دولار في العام الحالي (2022)، إلى قانون للموازنة العامة ويتم تصريف الأمور باعتماد جزء واحد إلى 12 من نفقات السنة الفائتة، وحكومته حكومة تصريف أعمال يومية!
تمت المصادقة على القانون المذكور في 26 من الشهر المنصرم، ومثّل وحدة كلمة شكلية تحت قبة البرلمان، كون المصادقة عليه جاءت “بالإجماع”، لكنه في تفاصيله يحمل الكثير من عناصر السجال بين القطبين الشيعيين، خلا تداعياته في الخارج، فهو في الداخل لا يزال محل سجال ونقاش. فالصدر والكتل التي طرحت القانون، كانوا يريدون بعد سلسلة من خيبات الأمل في البرلمان والعملية السياسية، ورغم كونهم الفائز الأول في انتخابات تشرين الأول 2021، أن يحققوا على الأقل مكسباً يدل على تفوقهم في البرلمان، ويجبروا منافسيهم وأصدقاءهم وخصومهم على الإذعان لمطلبهم. المنافسون الشيعة الذين انساقوا وراء التيار، بذلوا الجهد الكثير من خلال نوابهم في اللجنة القانونية ومجلس النواب أن يستنسخوا، من خلال تشديد بنود القانون، الأنموذج الإيراني في العراق، ويدفعوا بالعراق إلى حضن إيران أكثر فأكثر وعزله عن المجتمع الدولي من خلال اختلاق العقبات الكثيرة ووضعها في طريق عمل الشركات الأجنبية في العراق بحجة “تعاونها مع الصهيونية”.
تمرير القانون كمشروع مستقل، أمر غير مسبوق في المنطقة، حتى أن صدام حسين الذي كان يعمل باستمرار على معاداة إسرائيل لم يقدم على هذه الخطوة ولم يصدر قانوناً خاصاً بالأمر. القانون لا يضم شيئاً يختلف كثيراً عن الفقرات والمواد الأخرى التي يضمها القانون العراقي. بل ربما يكون إخراجه من رغبات وسطوة القوى الموالية لإيران في البرلمان ولجنته القانونية، إفلاتاً بأقل التداعيات والآثار على العراق. بعد الاجتماع الذي عقده السنة الماضية في أربيل بعض الشخصيات السنية، تم تحويل العلاقة مع إسرائيل إلى عنوان كبير في السياسة العراقية. ثم، وبعد الهجوم الصاروخي الإيراني على أربيل والادعاء بوجود قاعدة تجسس إسرائيلية في ذلك المكان، عادت إسرائيل لتصبح أقوى غائب حاضر في الانقسام بين القوى السياسية العراقية.
يمضي البعض من الولائيين الشيعة إلى أبعد من ذلك ويدعون بأن هذا القانون وعلى العكس من عنوانه “التجريم”، جاء لقتل المادة 201 من قانون العقوبات العراقي لسنة 1969، الذي يفرض عقوبة الإعدام على الذين يقومون بـ”تطبيع العلاقات مع إسرائيل”، لأنه جاء في هذا القانون أنه “لا يجري العمل بأي نص آخر يخالف هذا القانون”، وهكذا يتم إلغاء الحكم السابق.
كما يرى بعض الشيعة الولائيين أن القانون يراعي رغبات “أصدقاء إسرائيل الكورد” وسنة “تحالف السيادة” في رفع العقوبة المشددة وإبعاد الشركات الأجنبية والمستثمرين “الصهاينة” عن المساءلة، لكن الصدريين منتشون لأن خطوة غير مسبوقة في المنطقة جاءت على يدهم وأن العراق نجا من احتمالات التطبيع أو عدم التطبيع مع إسرائيل بمبادرة منهم، بعد أن بلغت موجة التطبيع وبإشراف أميركي الإمارات والبحرين ويرد بين الحين والآخر ذكر رغبة محمد بن سلمان في هذا السياق.
العلاقة مع إسرائيل ليست من المشاكل الراهنة التي يعانيها العراق، وحلها ومواجهتها حسب ما ورد في القانون لا يتفق مع بعض من المبادئ الجديدة التي تسود العالم، وتطبيقه يحتاج إلى سطوة دكتاتورية لم تتحقق بالكامل، بعد سقوط صدام حسين، لأي من القوى العراقية، ولهذا فإن هناك رأياً سائداً بأنه لن يكون أفضل حالاً من الـ60 ألف قانون عراقي نافذ حالياً، لكن تنفيذها ناقص ويتوقف على معادلات القوة وتأثيرات التفاعلات السياسية. فلو كانت الأمور تجري كما يرد في القرارات والقوانين، لكان العراق اليوم خالياً من أي قوة أجنبية، فقد صدر في مطلع العام 2020 قرار عن البرلمان العراقي يقضي بطرد تلك القوات، وتعهد هادي العامري وهو يقف على رأس جثمان أبو مهدي بأن “الثأر لهم سيكون من خلال طرد آخر قوة أجنبية”.
بعد العام 1948، عندما سحب العراق قواته من (جنين) الفلسطينية، لا يزال العراق نظرياً في حالة حرب مع إسرائيل ولم يصبح جزءاً من “جبهة السلام العربية”، لكن حملة “علاقات عامة” واسعة النطاق الموجة للدول العربية والتي دشنتها إسرائيل عن طريق وسائط الإعلام الاجتماعي وتوجد ضمنها صفحة خاصة موجهة للعراق، والخلافات الآيديولوجية الشيعية، وضعت القوى الشيعية العراقية في حالة ارتياب وقلق كبيرين، وهذا القانون يعبر عن القسم الأكبر من تلك الخيالات والصراعات الافتراضية بين جبهة “المقاومة” وجبهة “الصهيونية” التي تتحدث عنها الأدبيات السياسية الشيعية، وفي هذا السياق هناك رؤية مشتركة تجمع بين الشيعة الإيرانيين وبين الصدر الذي يعدّ نفسه وطنياً عراقياً، ولا يختلف هؤلاء عن أولئك إلا حول بعض التفاصيل وطريقة إدارة ذاك الصراع، ويخوضان منافسة شديدة على تولي قيادة الصراع.