بينما كانت الأنظار تتجه إلى لقاء منتظر بين قسد ودمشق في باريس، تتواصل أخبار القتال بينهما في جنوب حلب منذ يومين. في الواقع، تقترب اتفاقية 10 آذار بين الشرع - عبدي وبسرعة من نقطة التحول، وهذا سيؤدي إما إلى تسوية أو سيفتح الطريق أمام حرب أهلية سورية قصيرة ثالثة في عهد الشرع والتي قد تتركز في خط حلب- الرقة- دير الزور. أحداث السويداء مهدت الطريق لجكم ذاتي للدروز فرضه الأمر الواقع. بالطبع ليس واضحاً ما إذا كان هذا سيستمر أم سينتهي في نقطة ما، لكن إذا تمكنت "إدارة الشرع" من حل قضية حل قسد ودمج المؤسسات الإدارية بالدولة بسرعة، فيمكنها أن تحتفظ بأمل بناء نظام سياسي مركزي مفصل تماماً لرئيس مطلق الصلاحيات. في المقابل، تشعر قسد أنه مقارنة بأحداث ما قبل السويداء، فإن الوضع الحالي فرصة نادرة أو فرصة أخيرة، لذلك تتحدث بصوت أعلى من السابق عن بقائها وحكمها الذاتي السياسي.
معركة دير حافر؛ بوابة لتكثيف الصراعات حول الرقة ودير الزور؟
هناك إشارات كثيرة إلى أنه إذا لم تتصالح قسد ودمشق، فإن صراع الطرفين حول السيطرة على مناطق الرقة ودير الزور سيتفاقم. بالنسبة لدمشق، السيطرة على الرقة ودير الزور هي من بين المسامير الأخيرة لتثبيت سلطة الشرع؛ فمن جهة السيطرة على الموارد الاقتصادية مثل النفط والغاز والأراضي والمياه، تضعف احتمالية مركزية سوريا المستقبلية التي هي عالية الآن بوجود قسد والدروز. أما بالنسبة لقسد، فقدان الرقة ودير الزور يمكن أن يعني نهاية أو إضعاف مشروعها للحكم الذاتي السياسي.
أعلنت وزارة الدفاع السورية في 2 آب أن قسد هاجمت بالصواريخ قرية "الكيارية" ومحيطها في منبج، وتقول قسد إنها ردت على "هجوم الجماعات غير المنضبطة" التي هاجمت منطقة "دير حافر". استمر القتال في الريف القريب من هذه المنطقة. دير حافر هي إحدى المناطق القليلة غرب الفرات في جنوب محافظة حلب التي لا تزال بيد قسد؛ منطقة مهمة تصل عبر طريق طوله حوالي 150 كم إلى الطبقة في جنوب محافظة الرقة. هذه المنطقة على بُعد أكثر من 100 كم جنوب سد تشرين وقرية قراقوزاق التي كانت منذ أواخر العام الماضي حتى نيسان من هذا العام ميدان صراع صعب لجماعات المعارضة السورية المؤيدة لتركيا مع قسد.
في سيناريو حرب افتراضية، السيطرة على دير حافر بالنسبة للحكومة السورية تعني فتح طريق دعم لوجستي لممارسة الضغط على الطبقة، وهذا بالتزامن مع الضغط على سد تشرين وقراقوزاق من الشمال، يعمل كفكي كماشة للسيطرة على الرقة. بالنسبة لقسد، الاحتفاظ بدير حافر يعني الاحتفاظ بالرقة، التي يبدو أنها لا تريد التخلي عنها بدون اتفاق سياسي.
بالتزامن مع ذلك، تسعى دمشق للسيطرة على تلك المناطق في دير الزور التي بقيت شرق الفرات بيد قسد بمساعدة العشائر والمفاوضات والضغط العسكري. وقت أحداث السويداء، كسب أحمد الشرع، إضافة لدعم حلفائه الخارجيين، ورقة سهلة ومؤثرة أخرى وهي قوة العشائر. هذا بالنسبة للسويداء حيث كان عامل إسرائيل والجهود المكثفة للوسطاء الأمريكيين موجوداً، لم يحقق نتيجة كبيرة، لكنه يمكن أن يخلق مشكلة كبيرة لقسد. لذلك تستمر منافسة الطرفين الشديدة لكسب العشائر.
اختلاف تواقيع الشرع وكوباني
معركة السويداء انتقلت بالمفاوضات بين قسد والحكومة السورية المؤقتة إلى نقطة تحول. كشفت أن كلاً منهما فسر الاتفاقية برؤية مختلفة وكل من بنود تلك الاتفاقية لها معنى مختلف عندهما. في وقت أحداث مناطق الساحل السورية التي قُتل فيها 1334 شخصاً في 4 أيام، وقع الشرع وكوباني في 10 آذار فجأة اتفاقية أولية، كل من بنودها مفتوح على تفاسير مختلفة. بعد أحداث السويداء أيضاً، في الفترة 13-16 تموز، استمرت مفاوضات الطرفين لتنفيذ تلك الاتفاقية التي وُضعت لسنة، لكن ظهر بوضوح اختلاف رؤية الطرفين للاتفاقية السابقة.
بحسب المعلومات المنشورة يمكننا أن نفهم أن أحمد الشرع يرى ضمان حقوق الكورد في الحقوق الثقافية واللغوية، والمشاركة السياسية لجميع السوريين - التي يمكن النظر إليها كما قادة قسد والإدارة الذاتية - في مستوى إسناد منصب محافظ الحسكة أو شيء أوسع قليلاً من ذلك. المادة الرابعة من الاتفاقية يرا أنها تعني حل قسد والإدارة الذاتية وتسليم المؤسسات المدنية لدمشق. بالطبع الطرف الآخر له رؤية مختلفة، لذلك طلبت قسد البقاء كتشكيل لكنها مرنة تجاه تغيير اسمها. تريد إحدى الوزارات السيادية مثل الخارجية أو الدفاع ورئاسة أركان الجيش، وتريد أن يبقى حكمها الذاتي السياسي شرق الفرات وأن تشارك في اللجنة الدستورية. كلا الطرفين لهما رؤية مختلفة والمسافة بين مطالبهما بعيدة عن بعضها. على الأرجح ما يحسم هذا أمران: القدرة الميدانية والدعم الخارجي!
استمرار التجاذب الكبير على سوريا
بالطبع ليس مستقبل سوريا مرتبطاً فقط بالديناميات الداخلية للبلد، فالغموض في عدة مشاكل عالمية وإقليمية أخرى ألقى بظلاله على دمشق. وزير خارجية روسيا في الأيام الماضية طلب أن تتيح انتخابات سوريا الفرصة لمشاركة جميع المكونات الدينية والعرقية، وقال نريد أن يُمثل الكورد أيضاً ويبقوا كجزء من المجتمع السوري. ربما تكون هذه المقولة للافروف ضغطاً ضمنياً على حكومة دمشق وأمريكا لمراعاة مصالح روسيا أيضاً، وإلا فما دامت جهود روسيا في زمن الأسد للتصالح بين الكورد ودمشق لم تنجح، فإن مستوى تأثيرها الآن أقل خظاً. سوريا ما بعد الأسد هي بالأساس ميدان صراع الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل والخليج وأوروبا، لكن روسيا لا تزال تسعى لأن يكون لها دور في مستقبل سوريا. لا تزال روسيا تحتفظ بعدد من الجنود في القامشلي وحميميم وطرطوس كما لو كانت تنتظر لتعرف كيف سيكون توزيع المصالح الجيوسياسية والاقتصادية في سوريا ما بعد الأسد. لهذا تجد ورقة الكورد مهمة خاصة أن أمريكا الآن تعطي بعض الإشارات أنها تريد أن تميل أكثر نحو دمشق.
أمريكا وأوروبا حريصتان على أن تستقر سوريا بسرعة لكن لديهما مشكلتان وبقيتا بين تضارب مصالح حلفائهما: إحداهما كيفية التصالح بين تركيا وإسرائيل، والأخرى معضلة اتفاق الكورد مع دمشق!
تركيا ترى في الهيمنة العسكرية لإسرائيل في المنطقة وتقدمها في سوريا واحتمال تطور علاقات قسد- إسرائيل خطراً ستراتيجياً عليها. إسرائيل أيضاً ترى تطور قدرة تركيا في مجال الطائرات المسيرة والصواريخ، وكذلك تقوية موقعها العسكري في سوريا ثاني أقرب خطر تركي عليها. فقبرص الشمالية هي الخطر الأول، وفي سيناريو حرب افتراضية تركية -إسرائيلية يمكنها خلق مشكلة كبيرة لموانئ إسرائيل. تقدم تركيا وحلفائها نحو حدودها يُعد الخطر الثاني كع احتمال التمهيد للتجربة الإيرانية الثانية ضدها.
احتمال الاشتباك المباشر بين هذين البلدين - على الأقل الآن – قليل، ما دامت أمريكا موجودة، لكنه ليس ببعيد. لا يزال غير واضح ما إذا كانت هاتان القوتان ستتفقان أخيراً أم أن كل واحدة منهما ستحدد منطقة نفوذ في سوريا لنفسها، لكن الواضح أن احتمال استمرار خلافاتهما كبير وربما تصبح قضية الكورد جزءاً من ذلك. إسرائيل تفضل سوريا ضعيفة لامركزية، وتركيا تريد سوريا ضعيفة لكن مركزية. بعد أحداث السويداء، تحدث وزير خارجية تركيا، هاكان فيدان، عن احتمال تدخل بلاده إذا كانت بحسب قوله "بعض الأطراف تسعى للاستفادة من التعقيدات"، هذا القول كان إشارة لقسد التي تتحدث بصورة أوضح من السابق عن الحكم الذاتي السياسي. بالطبع لاحقاً تحدث وزير خارجية تركيا بنعومة أكثر من السابق وقال "دعهم يتفقوا مع دمشق وإذا أرادوا ضمانات للمستقبل فتركيا مستعدة"، كإشارة لأقوال مسؤولي قسد الذين طلبوا ضمانات بعد أحداث السويداء. أنقرة تسعى عبر عملية نزع سلاح حزب العمال الكوردستاني وحوار أوجلان والحوار المباشر وغير المباشر لحل قضية قسد، التي يبدو أنها قد ترضى أخيراً حتى بحكم ذاتي غير معلن فقط لئلا تقع ورقة الكورد بيد إسرائيل. بالطبع إسرائيل أيضاً، حتى الآن، لم تمد يدها لملف الكورد بغير الكلام، كما أن تركيا في زمن حروب حماس وحزب الله وإيران راعت حساسيات إسرائيل عملياً.
بالطبع التصالح بين قسد ودمشق ليس أمراً سهلاً، لكن هذا مطلب أمريكا وأوروبا. بالنسبة لهم، أحمد الشرع فرصة فريدة للعمل معه، من بين عشرات الجماعات الراديكالية، لكن في أكثر من عشر سنوات أخيرة حارب داعش ضد قسد أيضاً. هذا عدا عن أنه ربما سيكون وجود قسد لتوازن القوى في دمشق مفيداً لهم في المستقبل أيضاً. بالنسبة لدول الخليج أيضاً استقرار سوريا يعني تقوية دورهم الإقليمي وربما هذا مفيد لهم أيضاً في توازن القوى مع القوى الإقليمية مثل تركيا وإسرائيل وإيران. لذلك فإنهم سيشجعون على الأرجح على حل قضية اتفاق قسد ودمشق باتفاق الطرفين.
اتفاق واختلاف المشاريع الاقتصادية للدول مع مطالب الشرع
إدارة الشرع حريصة على تثبيت نظامها السياسي بأسرع ما يمكن، وهذا المطلب يتماشى مع مصلحة جزء من القوى الكبرى في العالم والمنطقة. من الناحية الاقتصادية، إعادة بناء سوريا التي بحسب التقديرات الأولية تكلف بين 250-400 مليار دولار، تفتح فرصة استثمار رائعة في وجه شركات الدول. قطر والسعودية سددتا أكثر من 15 مليار دولار من ديون المصارف الدولية علىسوريا وتساعدانها مالياً. بعد قرار ترامب رفع العقوبات عن سوريا، بدأت ثلاث شركات أمريكية السعي للاستثمار في البنية التحتية للنفط والغاز في سوريا. سابقاً أيضاً تم عقد اتفاقية بسبعة مليارات دولار بين سوريا وقطر في قطاع الكهرباء تشارك فيها شركة باور إنترناشنال الأمريكية وشركتا كاليون وجنكيز التركيتان. تركيا أيضاً تسعى للمشاركة الفعالة في السوق وقطاع البناء والطاقة ونقل الطاقة والاستثمار العسكري في سوريا. تطوير ميناء طرطوس أُعطي لشركة إماراتية وميناء اللاذقية لمدة 30 سنة لشركة CMA CGM الفرنسية. روسيا أيضاً لا تزال في قاعدة حميميم الجوية وميناء طرطوس وقد سبق لها أن عقدت اتفاقية تمتد 49 سنة عليهما مع حكومة الأسد ويبدو أنها الآن تسعى للبقاء. إيران في سوريا ما بعد الأسد تكبدت خسارة اقتصادية كبيرة لكن لديها مشكلة أكبر من التفكير في المنافسة في الميدان السوري. سوريا ما بعد الأسد أصبحت مكان التقاء المشاريع الجيو-اقتصادية للخليج وأمريكا وتركيا وأوروبا وروسيا، لا يزال غير واضح إلى أي حد سينجح هذا، لكن الواضح أن الاستقرار السياسي لسوريا - على الأقل حتى الآن - في مصلحة الجميع. هذا بالذات يمكن أن يكون أحد أسباب دعم، أو على الأقل صمت، تلك القوى إزاء الوضع الحالي لذلك البلد.
ماذا يحدث؟
وساطات توم باراك في ثلاثة اجتماعات (واحد) في دمشق وعمّان (اثنان) حول كيفية تنفيذ اتفاقية 10 آذار بين قسد ودمشق لم تصل لنتيجة، لذلك تقرر أن يجتمعوا هذه المرة في باريس في أواخر الشهر الماضي. تأجل الاجتماع المرتقب بسبب عدم استعداد دمشق الذي يفسره البعض بالفيتو التركي غير المعلن. رغم أن دمشق نفسها، عدا تركيا، ربما لا تريد اتفاقاً فيه وساطات كثيرة. كانت هناك معلومات عن عقد اجتماع باريس في الأيام القادمة لكنه لم يُعقد وظهر خبر تمديد المهلة مرة أخرى. آخر الأقوال الآن هو أن اجتماع باريس ربما يُعقد في يوم ما من الفترة بين اليوم حتى 20 من هذا الشهر. بالطبع، واقع الميدان السياسي - العسكري في سوريا سريع التغير لدرجة أنه يمكن أن يغير هذه التوقعات فيقدما أو يؤخرها كما تأخر حتى الآن ثلاث مرات على الأقل. مثلاً إذا توسعت دائرة اشتباك 3 آب في قرى منبج في محافظة حلب وتصاعدت الردود المتبادلة بين قسد ووزارة الدفاع، فربما يذهب الوضع باتجاه آخر.
أخيراً هناك سيناريوهان أساسيان للمستقبل. أحدهما أن يتفق الطرفان أخيراً والذي على الأرجح سيكون اتفاقاً على نوع من اللامركزية السياسية. لأن سوريا ما بعد الأسد معقدة ومتعددة الفاعلين لدرجة أنها لا تعطي فرصة لظهور "سوريا الشرع" كما لا تفتح الطريق في وجه كل مطالب قسد. لذلك الطريق الوسط الذي يرضي الطرفين يُعتبر مخرجاً للاتفاق. يمكن أن يكون هذا أيضاً استقلالاً ذاتياً فعلياً أو غير معلن يرضي الطرفين. إذا حدث السيناريو الثاني أي الحرب، فعلى الأرجح سيكون ثقلها في دير الزور والرقة لكن ربما لا تكون حرباً طويلة الأمد. لأن معظم الأطراف الخارجية المؤثرة على سوريا لا تريد الحرب. الشرع يحتاج المساعدة الخارجية ومجيء شركات الدول لإعادة بناء بلاده ولا يستطيع الخروج كثيراً عن رغباتهم. الفرص أمام قسد أيضاً ليست غير محدودة. هي تحت ضغط الحلفاء الأمريكيين والعرب للاتفاق، وهناك عامل أوجلان أيضاً الذي ربما في اللحظة الأخيرة سيطلب منهم التصالح. يبدو في تلك الرسالة المرئية التي أرسلها لهم أنه لم يطلب نزع السلاح لكن بالنظر لأفكار اليوم، ربما يريد تصالحاً أكثر بين قسد وتركيا وهذا يؤثر على وضع سوريا ومصير اتفاقية 10 آذار.