تحليل

جمود العلاقات السياسية بين دمشق والكورد: استراتيجية الانتظار ومآلات التغيير

27-08-2025


منذ انعقاد كونفرانس وحدة الصف والموقف الكوردي في قامشلو وتشكيل الوفد الكوردي الموحد، دخلت العلاقة بين دمشق والفاعلين السياسيين والعسكريين في المنطقة الكوردية في سوريا مرحلة جمود سياسي واضح. يثير الجمورد سؤالاً محورياً: هل هو خيار استراتيجي مدروس من الطرفين، أم نتيجة فشل في التفاوض وفقدان الإرادة المشتركة للوصول إلى صيغة تفاهم؟ ومن المتوقع أن تكون صياغة الدستور الساحة الرئيسية للنقاش، وتشمل تحديد مستوى اللامركزية، ودور الإدارات الإقليمية، وضمان عدم عودة سوريا إلى الاستبداد المركزي أو الانقسام إلى كيانات موازية تهدد وحدة الدولة.

موانع تطور الحوار والوصول للحلول

دمشق تتحرك انطلاقاً من حسابات أمنية وسياسية أبرزها رفض أي صيغة لامركزية، قد تُعيد تعريف شكل الدولة أو تحدّ من مركزية القرار.

في حين يسعى الوفد الكوردي لانتزاع اعتراف بدورهم السياسي والإداري والعسكري والاقتصادي في إدارة المنطقة، وضمان مكتسبات اللامركزية.

توضحت تباينات المواقف بين الطرفين خلال زيارة وفد الإدارة الذاتية إلى دمشق في يونيو 2025، لإجراء محادثات سياسية وأمنية بهدف دمج المؤسسات العسكرية والمدنية في مؤسسات الدولة الجديدة.

ويمكن حصر العوامل المانعة للحوار بين الطرفين بخمس قضايا رئيسية، تجد حكومة دمشق بعضها غير قابلة للمساس، في حين يشعر الكورد بمخاوف من إعادة حرمانهم. من الشراكة في الثروة والسلطة، وصناعة القرار السوري بجميع مفاصله. وهي:

1-الخلاف الجذري بين الطرفين على توصيف طبيعة القضية الكوردية، كقضية سياسية تحتاج لحلول سياسية. يتبنى هذا الراي الحراك الكوردي. في حين لا تزال السلطة في دمشق، تحصرها ضمن إطار  أمني، وتخصص الحل عبر تنفيذ اتفاقها مع قائد قسد، وتنفيذ اندماج القوات العسكرية ضمن الجيش السوري. إضافة للمشكلة الأساسية حول شكل الدولة ونظام الحكم. فمع إصرار الكورد على اللامركزية، وتطبيق الديمقراطية، كرؤية بديلة لشكل الدولة السورية الحالية. تصر السلطة السورية على رفض الحديث عن أيّ شكل من أشكال اللامركزية السياسية، وتقتصر على اللامركزية الإدارية فقط.

2-تركيبة وبنية الطرفين. قسد بُنيت على أساس ماركسي-اشتراكي. والأحزاب الكوردية تأسست على أسس الديمقراطية والتعددية. في حين إن "هيئة تحرير الشام" والتي شكلت عصب بناء الكُتلة الحاكمة الحالية، ورغم حلّ "الهيئة" فإنها تشكلت على أسس العقيدة الجهادية.

3-الصراع على الموارد الاقتصادية: كحقول الطاقة من نفط وغاز. إضافة للمحاصيل الاستراتيجية من القمح والقطن، وحركة المطارات والمعابر، والاقتصاديات الناشئة خلال الحرب. والتي تجدها السلطة، الأداة الرئيسية لاستعادة عجلة الاقتصاد وإنعاش الوضع المعيشي الكارثي. في حين يتمسك الكورد بضرورة إشرافهم على الوضع الاقتصادي في مناطقهم، وضمان عدم تهميشهم من المشاريع التنموية، وشبكات التضامن الاجتماعي.

4-التنافس على السيطرة الأمنية والإدارية: تسعى دمشق، للسيطرة على شمال شرق البلاد، ومن ضمنها المنطقة الكوردية. وإن لها الأحقية في إسناد المناصب الأمنية والإدارية. في حين أن غياب التمثيل الكوردي في الوزارتين، يعني غيابهم عن بناء الهويّة السورية الجامعة؛ إذ أن الهويّة الأمنية والعقائدية للدولة والأفرع الأمنية والعسكرية، تتحدد عبر الهويّات المنضوية والمُشكلة هاتين الوزارتين.

5-الصراع الدولي الإقليمي: تتنافس كُلً من تركيا، والدول العربية على ملئ الفراغ الذي تركته إيران. إضافة للصراع البارد بين روسيا وأمريكا ومعها الدول الأوروبية، سواء على الموارد أو طرق نقل الطاقة، أو كيفية إعادة تشكيل الدولة السورية، ومُشاركة المكونات ومن ضمنها الكورد، في إعادة صياغة المشهد السياسي والإداري وإدارة التنوع في سوريا.

  السياق الراهن للعلاقة

1-دوافع دمشق وحساباتها تجاه القضية الكوردية في سوريا

تتعامل دمشق مع القضية الكوردية، عبر عدسة استراتيجية مركبة. تتداخل فيها الاعتبارات السياسية، والأمنية، والاقتصادية. وتنظر الحكومة السورية لنوعية مطالب الكورد على إنه تهديد لاستعادة السيطرة المركزية على الدولة، لا سيما أن المنطقة الكوردية، تُشكل مركزاً جغرافياً واقتصادياً حيوياً. لهذا تسعى دمشق إلى إلغاء أي مظهر من مظاهر الحكم الذاتي، أو اللامركزية أو الشراكة في السلطة والثروة التي -وفقاً لمخيالها-ستقوض وحدة الدولة، وتحد من سلطة المركز. وتصر على تفكيك قوات سوريا الديمقراطية، التي بدورها هذه الأخيرة، ترفض الفكرة اساساً، وتؤكد على دخولها ككتلة واحدة للجيش.

لهذا تشكل السيطرة على الحدود  والمعابر والمطارات بالنسبة للسلطة، أداة أمنية استراتيجية، لضبط حركة البلاد.

2-أهداف ومخاوف الفاعلين الكورد (سياسيين وعسكريين)

تسعى القوى الكوردية للحصول على اعتراف سياسي وإداري واضح بدورهم في إدارة مناطقهم، ويعتبرون الديمقراطية التشاركية واللامركزية، سياسة ضرورية لإرساء الاستقرار المحلي وتجاوز سنوات النزاع التي أضرت بالمجتمع الكوردي، وضماناً لحقوقهم التاريخية، واعترافاً بالتنوع الثقافي والسياسي في سوريا. على الصعيد العسكري، تسعى قسد إلى الحفاظ على استقلالية قواتها ضمن إطار يضمن أمن المنطقة ضد أي تهديدات داخلية وخارجية.  بالمقابل تتواجد قوة عسكرية كوردية سورية، منظمة ومدربة، وهي قوات بشمركة روج افا، في إقليم كوردستان العراق، ومن حقها العودة إلى مناطقها الرئيسية، والمشاركة في الدفاع عن المنطقة الكوردية. وبحكم أن "قسد" ترفض الانضمام كأفراد إلى الجيش السوري، فإن من حق البشمركة الاحتفاظ بهيكليتها ووضع خاص، يحفظ قوامها وسلاحها النوعي الذي بحوزتها.

موافق الدولية حيال القضية الكوردية

لا تقتصر الحلول على الديناميات الداخلية فحسب. بل إن تعقيد العلاقات الدولية والإقليمية هي الأخرى تتحكم بنوعية الحلول المستقبلية لسوريا وعلاقتها بالكورد، خاصة وأن كُلً يسعى وراء مصالحه لا غير.

روسيا تسعى للضغط على أمريكا وسوريا لمراعاة مصالحها، لهذا سبق أن صرح وزير خارجيتها ضرورة افساح المجال امام مشاركة جميع المكونات الدينية والعرقية، وتمثيل الكورد كجزء من المجتمع السوري.

تُركيا تخشى من أيَّ تمدد لإسرائيل في المنطقة. وتعتقد إن نجاح العلاقات بين تل ابيب والسويداء، سيقود لنوع من ترتيب العلاقات مع الكُرد ايضاً. وهو خطر استراتيجي على أمنها القومي. وإسرائيل ايضاً ترى في التمدد التركي خطراً عليها، وسيقود لتشكيل ما يُشبه قبرص الشمالية في سوريا. ولا ترغب إسرائيل اقتراب تركيا من حدودها كي لا تُكرر تجربة إيران، وخلق مُهددات وجودية جديدة، خاصة على حركة الموانئ والتجارة. لهذا لكل طرف رؤية وأدوار في سوريا. وتشترك أنقرة وتل ابيب برغبة رؤية سورية ضعيفة، لكن الأولى تريدها مركزية، والثانية لا مركزية.

الدور الأمريكي والأوربي متشابه لناحية ضمان الاستقرار السياسي والأمني في سوريا، وبدء عملية التعافي الاقتصادي والعدالة الانتقالية. لكن المشكلة بينهما أن واشنطن تسع للمصالحة بين أنقرة وتل أبيب، في حين أن أوربا تستشعر معضلة أتفاق الكورد ودمشق. مع ذلك لا يزال موقف الطرفين متذبذباً حيال فرض نظام حكم وشكل دولة جديد، يحمي جميع المكونات.

إقليم كوردستان

تعمل بجهد كبير على المستويات الإقليمية والدولية لحماية الكورد في سوريا. وتسعى لتوحيد وتشكيل رؤية ووفد موحد للتفاوض مع الحكومة السورية الجديدة. وضرورة اتفاق الكورد فيما بينهم على شكل الدولة والعلاقة مع الحكومة السورية الجديدة، وقضية مقاتلي "البشمركة" السوريين التابعين للمجلس الوطني الكردي.

الخُلاصة:

إن مستقبل العلاقة بين الكورد والحكومة السورية الجديدة، يرتبط بموقف الفاعلين الإقليميين والدوليين، وكذلك بمتانة ترتيب البيت الداخلي الكردي عسكرياً ورؤية سياسية واضحة. حيث يمكن للدعم الدولي والإقليمي الحازم أن يفتح آفاق تسوية سياسية شاملة، تحقق حقوق الكورد، وتعزز الاستقرار الوطني.

أما استمرار الجمود والصراعات المحدودة، فسيزيد من التوترات، ويعقّد من فرص الحل، في ظل استغلال القوى الخارجية للصراع لتحقيق مصالحها. لذلك، يبقى الحوار والتفاهم المدعوم بالضغوط الدولية هو المفتاح لتجنب التصعيد، وبناء مستقبل يسوده التعايش والتنمية.

وهو ما يقودنا لثلاث سيناريوهات مُحتملة. أول: اتفاق دولي لتسريع التفاوض وحل القضية الكوردية. وهذا يشترط توفر دعم دولي وإقليمي، وعزم عربي لتسوية سياسية سورية شاملة تشمل جميع الأطراف، مع دمج القضية الكوردية ضمن الإطار الوطني، بخصوصية قومية.

هذا السيناريو يقود لتداعيات محددة: حصول الكورد على حكم ذاتي أو لامركزية بضمانات دولية، ووضع مواد دستورية لضمان حقوق المكونات. كما أن لها بعض المخاطر والفرص:

-خطر فشل التفاوض وضعف الضمانات يؤدي إلى انسداد سياسي.

-فرصة لتأسيس نموذج حكم جديد يدير التنوع ويعزز الوحدة الوطنية والتنمية.

سيناريو ثاني: توافقات أمنية وإدارية محدودة. يتطلب اتفاقات لحل قضايا إدارية وأمنية مثل السجل المدني والتعليم وضبط الحدود. يقود إلى استقرار محلي مؤقت وتحسين اجتماعي، مع بناء تقارب سياسي تدريجي. أما المخاطر والفرص أمام هذا السيناريو فهي:

 -خطر فقدان الثقة أو عرقلة التفاهمات من قبل جماعات محلية.

-فرصة لبناء ثقة تدريجية وفتح حوار سياسي أوسع

سيناريو ثالث: استمرار جمود الحدود مع احتمال نزاع محدود. وهو سيقود إلى: غياب أي تحوّل جذري، مع تجنب تصعيد عسكري كبير بين قسد والحكومة.

تداعيات هذا الأمر يُفضي إلى: استمرار التوتر واللااستقرار، وتأثير سلبي على التنمية والخدمات، وتصاعد خطاب الكراهية.

المخاطر والفرص:

-تفكك النسيج الاجتماعي واحتمال تصعيد عسكري مفاجئ.

-فرصة لتفاهمات محلية وتقوية قنوات دبلوماسية للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار.

Share this Post

تحليل