تحليل

حرب الـ12 يوماً والتحولات الصامتة في غرب آسيا

03-07-2025


لا شك أن حرب الـ12 يوماً بين إسرائيل وإيران واحدة من أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي يمكنها أن تغير الوضع الاقتصادي والحسابات السياسية والأمنية في غرب آسيا. فمثلما لم تكن حرب الستة أيام بين العرب وإسرائيل في العام 1967 لمجرد السيطرة على الأرض، لم تكن حرب الـ12 يوماً بين إيران وإسرائيل على الصواريخ والبرنامج النووي فقط. فإلى جانب ذلك، كان الهدف إبعاد طهران عن الصين وروسيا، ووضع حد للمد الشيعي بقيادة إيران، مثل الحد الناجم عن حرب الستة أيام والذي لجم المد القومي العروبي المتنامي آنذاك بقيادة جمال عبدالناصر ودعم موسكو.

بغض النظر عما إذا أطلقنا عليها "هجمة الأسود" أو "الوعد الصادق" أو "مطرقة منتصف الليل"، يمكننا القول إن هذه الحرب باتت تغير، في صمت، المشهد في المنطقة. الشرع في سوريا يعد العدة لدخول مرحلة جديدة من ترسيخ أسس حكمه، والنفوذ الإقليمي التركي والخليجي يتصاعد، وتحت تأثير هذه الحرب، انتقلت مسألة نزع سلاح حزب العمال الكوردستاني إلى مرحلة جديدة. هذه الحرب حولت العراق وإقليم كوردستان إلى ميدان لمنافستين إقليميتين كبيرتين؛ من جهة، ميدان تنافس عسكري بين إيران وإسرائيل، وهذا ما جعل الوضع الداخلي على حافة أزمة أخرى، حيث تلعب "الطائرات المسيّرة المجهولة" الدور المؤثر. من جهة أخرى، العراق يتجه نحو التحول إلى ميدان صدام بين المصالح التركية وتلك الإيرانية. الحرب، وقبلها ظلال الحرب، حفزت تركيا أكثر للعودة بصمت، من خلال خطاب الأخوة التركية - الكوردية، إلى خطاب إعادة بناء هوية الدولة – الأمة خاصتها. كذلك الجدل الدائر في هذه الأيام بين المحافظين المتشددين والمجموعات الأخرى ضمن النخبة السياسية الحاكمة الإيرانية، يمثل جانباً آخر من الآثار الصامتة لهذه الحرب، والتي يتوقع لها أن تستمر.

العراق بين مطرقة الحرب وسندان التنافس

يبدو وضع العراق أكثر حساسية بينما يمضي في ظل الحرب والتنافس الإقليمي نحو انتخابات قد تكون مصيرية ككل مرة. بشأن الحرب، يشكو العراق من انتهاك سيادته الجوية، لكن هذه ليست المشكلة الوحيدة في الواقع. في اليوم الذي توقف فيه إطلاق النار، تم تدمير اثنين من راداراته، وفي الأيام الأخيرة ظهرت طائرات مسيّرة مجهولة كمشكلة أمنية في كركوك والسليمانية ودهوك. الحكومة لا تزال تحقق لمعرفة من فعل ذلك. البعض يتحدث عن داعش، لكن هذا لا يشبه تصرفاتهم لأنهم الآن لا يملكون تلك القدرة العسكرية والتنظيمية. فقط ثلاثة فاعلين إقليميين لديهم القدرة على إطلاق طائرات مسيّرة في جميع أنحاء إقليم كوردستان وكركوك، وهؤلاء هم تركيا وإيران وفصائل "المقاومة" وإسرائيل! ربما لا تحتاج تركيا لفعل ذلك في وقت تركز فيه العالم على محادثات نزع سلاح حزب العمال الكوردستاني، كما أن الأهداف لا تشبه الأهداف التركية. لكل من إيران وإسرائيل حساسية تجاه موقف إقليم كوردستان والعراق. فخلافاً لما يقال، كان لإقليم كوردستان موقف الصمت والحياد في هذه الحرب، لكن المشكلة أن حياد إقليم كوردستان لا يرضي إيران ولا إسرائيل! وفي حال استئناف الحرب وحتى في حالة عدم الحرب، لإقليم كوردستان، بحكم موقعه الاستراتيجي، أهمية كبيرة جداً في ستراتيجية الهجوم والدفاع للطرفين. لا يعرف بعد من كان وراء الهجمات بالطائرات المسيّرة، لكن على الأرجح هذه رسالة أكثر من كونها هجوماً بقصد الضرب.

هناك نقطة أخرى، وهي أن احتمال تورط العراق مفتوح دائماً بسبب توازن القوى في المنطقة، لأن العراق مهم لإيران لحماية آخر معقل إقليمي لها، وهو مهم أيضاً لإسرائيل لإبقاء بوابة الوصول إلى إيران مفتوحة وعدم خلق عقبات في طريقها من جانب العراق.

وبعيداً عن القضايا الأمنية والعسكرية، يبدو أن العراق سيصبح في المستقبل، وبدرجة أكبر، ميداناً للتنافس والنفوذ الاقتصادي التركي والإيراني، ويترجم ذلك إلى أزمة سياسية.

في السنوات الأخيرة، توجهت إيران أكثر من السابق نحو تطوير علاقاتها الاقتصادية مع العراق وإقليم كوردستان. تفدکله لم يصل حجم التجارة الإيرانية مع العراق إلى ستة مليارات في العام 2020، وكان حجم التجارة التركية حينها يتجاوز 17 ملياراً. استمرت إيران في التوجه نحو السوق العراقية بحيث قلصت في العام 2024 الفارق بينها وبين تركيا. تقدر الخسائر الاقتصادية الإيرانية بعد سقوط بشار الأسد بما يتراوح بين 30 و 50 مليار دولار. ويقدر أن حرب الـ12 يوماً كلفتها ما بين 24 و 35 مليار دولار. أما في حال أعيد فرض العقوبات الدولية بحلول 18 تشرين الأول، فعليها أن تعض على السوق العراقية بالنواجذ، لأنها ستكون عصبها الاقتصادي. كان القائد السابق للحرس الثوري، محسن رضائي، قد قال في السابق إنه لا يمكننا أن نحارب من أجل البلدان بينما تذهب خيراتها لبلدان أخرى.

لقية لتركيا والخليج وفرصة للشرع

هذه الحرب عززت الدور الإقليمي لتركيا ودول الخليج. فضعف إيران وإسرائيل جراء الحرب هو أشبه بالحصول على دوشيش في لعبة الطاولة، بشرط أن يقتصر الأمر على هذين البلدين وحدهما، لكن الاثنين ينافسان عمان على استضافة المفاوضات الافتراضية بين إيران وأمريكا؛ هذا إذا جرت!

حرب إيران وإسرائيل تعني لتركيا إضعاف منافسين إقليميين، لكن الجانب الآخر هو أن الحرب بين البلدين لو امتدت أو أدت إلى تغيير سريع في إيران، لكان ذلك مصدر خطر عليها. الحرب قربت بين تركيا وأمريكا. السفير الأمريكي في أنقرة قال إنه من الممكن إعادة تركيا إلى برنامج طائرة إف35. بالإضافة إلى ذلك، كانت تركيا واحدة من البلدان القليلة التي أبلغتها أمريكا بالهجوم الإسرائيلي قبل وقوعه بفترة قصيرة. يبدو أن تركيا لعبت/ تلعب دوراً في مفاوضات وقف إطلاق النار، والوساطة بين إيران وأمريكا، وكذلك حماس وأمريكا. أما إذا اتفقت سوريا الشرع وإسرائيل، فهذا يعني أيضاً المصالحة بين تركيا وإسرائيل، والتي بالإضافة إلى تقليل المخاوف السياسية - الأمنية تجعل الوصول إلى السوق السورية أسهل وأكثر استقراراً، في وقت رفع فيه ترامب جانباً من العقوبات على سوريا. هذه الحرب ستشجع أحمد الشرع أكثر على التوافق مع إسرائيل، مما يعطيه فرصة أكبر لترسيخ موقعه.

مسألة نزع سلاح حزب العمال الكوردستاني

في فترة الحرب، كان هناك حديث في تركيا وأيضاً بين المقربين من حزب العمال الكوردستاني عن إمكانية تكرار سيناريو سوريا - روجآفا وحزب العمال الكوردستاني في إيران أيضاً، عندما سلم الأسد السيطرة على المناطق الكوردية لوحدات حماية الشعب - حزب الاتحاد الديمقراطي. في الواقع، كان مصدر هذا فهماً خاطئاً لوضع إيران والمسألة الكوردية هناك. الدافع الرئيس للأسد للانسحاب من روجآفاف والاتفاق مع حزب العمال الكوردستاني كان اعتقاد الأسد بأنه سيضع بهذا درعاً بشرياً أمام تركيا ومجموعات المعارضة، ويمكنه استعادة هذه الأرض من الكورد عندما يريد، لأن الكورد لا يملكون عمقاً جغرافياً والوضع الطوبوغرافي لا يسمح بحرب طويلة الأمد في مناطقهم. باختصار، كانت النية التضحية بالكورد، لذلك لم يكن مستعداً للاعتراف بالهوية الكوردية حتى في أضعف لحظات سلطته. تكرار سيناريو روجآفا في إيران ليس سهلاً، لأن أي قوة مسلحة تمسك بسلسلة جبال زاغروس لا يمكن إخراجها منها بسهولة. هذا بالإضافة إلى أن تلك المناطق الجبلية مع جبال البورز وصحارى الشرق ومياه الجنوب تشكل ركائز مثلث في الجغرافيا العسكرية الإيرانية، والتخلي عن واحد منها يعني انهيار التوازن، وفتح الطريق سالكاً إلى طهران ووسط إيران وتركهم بلا دفاع. لذلك لن يفعل أي نظام سياسي ذلك بإرادته. لكن المكسب المهم لتركيا من هذه الحرب هو أنه قد يحدث تطور في قضية نزع سلاح حزب العمال الكوردستاني. على الأرجح تراجع أمل حزب العمال الكوردستاني في الاستقواء بدعم إقليمي. كان هذا سراً مكشوفاً أن نزع سلاح حزب العمال الكوردستاني لم يكن في مصلحة إيران، خاصة من الجانب الأمني. لأن بقاء حزب العمال الكوردستاني على الحدود، إضافة إلى أي هدف آخر، كان مفيداً لأمن الحدود منذ 1992. هذا بالإضافة إلى أن تركيا كانت دائماً قلقة من أن تقلب إيران الوضع السوري عليها. لكن بعد حرب الـ12 يوماً أصبحت تتحرك بشكل أكثر طمأنينة.

أطلق رئيس الجمهورية التركي في الأيام الأخيرة سراح سجين كوردي كان معتقلاً بسبب الانتماء إلى حزب العمال الكوردستاني، ما قد يكون إشارة لتقدم أكبر في مسألة نزع سلاح حزب العمال الكوردستاني. في نفس الوقت، ينتظر العالم خطوة رمزية من حزب العمال الكوردستاني قد تطلق يد تركيا أكثر لاتخاذ بعض الخطوات القانونية الأخرى المتوقع اتخاذها بحلول نهاية خريف هذا العام. مصير تلك الخطوات سيشهد مداً وجزراً، لكن خطابات دولت باخجلي عن أخوة الكورد والأتراك، هي في الأخير اعتراف نادر من جانب سياسي قومي تركي بالهوية الكوردية في ذلك البلد. في وقت سابق، فعل ذلك الرؤساء مثل أوزال وأردوغان، والآن يفعل رئيس حزب الشعب الجمهوري القومي الذي هو أكبر حزب سياسي في تركيا شيئاً مشابهاً، هذا يشير إلى إمكانية وصول هذه العملية إلى حد إعادة تعريف هوية الدولة - الأمة التركية، كما أن أوجلان - حزب العمال الكوردستاني تخليا عن كل أنواع حلولو الأرض - المحور للمسألة الكوردية.

إيران من الصراع الجيوسياسي إلى نقاشات السياسة الداخلية

لم يكون وصول الجمهورية الإسلامية إلى الحكم في إيران شأناً داخلياً فحسب، بل كان أيضاً تحولاً جيوسياسياً فقد فيه النظام الإقليمي بقيادة أمريكا والغرب ركناً مهماً من أركانه؛ المنظومة المرتبطة بأمريكا من خلال التحالف مع تركيا العضو في ناتو، وإسرائيل، والخليج، وشاه إيران، انفرط عقدها بمجيء الجمهورية الإسلامية؛ فإيران لم تعد حليفة أمريكا وفي الفترة من 1980 إلى بدايات التسعينيات، تأسست على الأقل خمس جماعات مسلحة مهمة، ثلاث منها كانت تمثل تهديداً أمنياً على تركيا وإسرائيل. لكن هذا لم يكن يمثل قلقاً كبيراً للغرب وأمريكا، لأنهم كانوا من جهة يملكون القدرة على السيطرة على التهديد الأمني لهذه المجاميع، ومن جهة أخرى لم تكن علاقات إيران الخارجية مع أعداء الغرب في مستوى يخلق مشاكل لأمريكا. لكن هذا تغير مع مطلع الألفية الجديدة، وبعد الربيع العربي؛ فتصاعد النفوذ الإقليمي الإيراني لدرجة أن إيران نفسها كانت تستخدم مصطلح "الصحوة الإسلامية" وكان أعداؤها يسمونه "الهلال الشيعي"، وجنباً إلى جنب ذلك، تطورت قدرة إيران في مجال التكنولوجيا العسكرية. لكن الأهم من ذلك كان تخلي طهران بصمت عن شعار "لا شرقية ولا غربية". ثم جاءت اتفاقية الـ25 عاماً بين إيران والصين في 2021 واتفاقية الـ20 عاماً بين إيران وروسيا في 2025، وتقديم الطائرات المسيّرة الإيرانية لروسيا والجدل بشأن تزويد موسكو بالصواريخ البالستية، بالإضافة إلى أحداث 7 أكتوبر، لتتراكم وتخلق نقطة تحول في نظر أمريكا وأوروبا؛ فأصبحت إيران في نظرهم "شرقية"، وربما كان هذا واحداً من الدوافع المهمة لحرب الـ12 يوماً.

يتجه خطاب الدبلوماسيين الآن في إيران بدرجة أكثر باتجاه عدم استئناف الحرب، لكن الكثير من المسؤولين العسكريين يشكون في استمرار وقف إطلاق النار "الهش" المعلن. على الأرجح سيؤثر الموقف الافتراضي للصين وروسيا في حدوث الحرب مرة أخرى من عدمه. إذا اعتمدت طهران عليهما وتوجهت نحو تخصيب اليورانيوم مرة أخرى أو ابتعدت عن الاتفاق والتوافق مع أوروبا وأمريكا، فمن الممكن أن تستأنف الحرب. الحروب لها تأثير مزدوج على سياسات الدول، فإما أن تدفعها نحو نوع من الانفتاح أو تزيدها انغلاقاً، وفي ظل الحديث عن احتمالغ الحرب وعدمها، هناك الآن جدل ساخن حول السياسة الداخلية والخارجية بين الجناح المحافظ المتشدد والمجاميع الأخرى في السلطة، ويبدو أن هذا الجدل سيستمر لفترة.

Share this Post

تحليل