RRC | حسين عمر |
مقدّمة:
عقّد الاحتلال التركي لمنطقتي سري كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض)، بعملية الغزو التي بدأت في 9 اكتوبر/تشرين الأوّل وأطلقت عليها تركيا اسم (نبع السلام) المعطيات في منطقة شرق الفرات وغرب كوردستان وزعزعت أفضليات الموقع والموقف الكورديين في أعقاب السيطرة على الباغوز وإنهاء دولة الخلافة الداعشية. ففي أعقاب انتهاء معركة الباغوز، ارتفعت أسهم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تشكّل وحدات حماية الشعب (YPG ) الكوردية عمودها الفقري، التي أحكمت سيطرتها على كامل منطقة شرق الفرات، بما فيها حقول النفط والغاز الرئيسية في سوريا، وظهرت صورة الكورد على أنّهم أبطال الانتصار على داعش ودحرها، وأنّهم المقاتلون الذين قاتلوا نيابة عن العالم أعتى وأشرس تنظيم إرهابي عرفه التاريخ، وهزموه واحتجزوا أكثر من عشرة آلاف من قيادات ومسلّحي التنظيم، وبالتالي، لم يحموا مصالح العالم الحرّ فحسب، بل وحموه من الإرهاب الدموي الذي كان يهدّد شعوبه في عواصمها ومدنها. فازداد الاهتمام والتعاطف الدوليين مع الكورد، من دون أن يصلا، للأسف، إلى حدّ موقف ومشروع سياسيين لدعم قضيتهم كشعب على أرضه. الاحتلال التركي الأخير لمناطق الكورد أخلّ بهذه المعطيات، وبالتالي ضيّق الهامش كثيراً أمام خيارات الكورد سياسيّاً في سوريا.
هبوطٌ أمريكي وصعودٌ روسي:
بدأ انحسار النفوذ الأمريكي في الأزمة السورية منذ عام 2013، حينما تراجع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عن اتّفاقه مع فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي السابق، على شنّ عملية عسكرية جويّة ضدّ مواقع القوات السورية، في أعقاب اتّهام هذه القوّات باستخدام الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية (21 اغسطس/آب 2013). يقول هولاند في مذكّراته (دروس السلطة) – والتي قمتُ شخصياً بترجمتها مؤخّراً – أنّه اتّفق وأوباما على شنّ هجومٍ مشترك ضدّ مواقع سورية، وتمّ تحديد موعد الهجوم على أن يكون في يوم الأحد، الأوّل من سبتمبر/أيلول 2013. ولكن أوباما اتّصل به، في يوم السبت 31 أغسطس / آب، هاتفياً ليُخبره بأنّه قد قرّر التشاور مع الكونغرس في واشنطن قبل إعطاء موافقته النهاية، وبذلك أُلغيت العملية. ويقول هولاند أنّ هذا التملّص الأمريكي قد ترك تأثيراً كارثياً على النزاع السوري، إذ استغلت روسيا ذلك لكي تتدخّل بقوّة في اللعبة، ولعب فلاديمير بوتين دور الوسيط من خلال الحصول على وعدٍ من النظام السوري بتدمير منشآته الكيماوية والتخلّص من مخزوناته. ثمّ عزّزت روسيا من تدّخلها ونفوذها في سوريا عندما أرسلت قواتها الجوّية إليها وبدأ سلاح الجو الروسي بتوجيه ضربات جوية في الأراضي السورية بتاريخ 30 سبتمبر/أيلول 2015. تعزّز نفوذ روسيا في سوريا أكثر حينما جرّت تركيا، مع إيران، إلى صفّها وخلقت (مسار أستانا) في يناير/كانون الثاني 2017، بديلاً عن المسار الدولي لحلّ الأزمة السورية (مباحثات جنيف)، وضمنت الدول الثلاث اتفاقيات وقف اطلاق النار في سوريا وانشاء أربع مناطق لخفض التصعيد كانت المعارضة السورية المسلّحة تسيطر عليها، أعادت روسيا (عبر اتفاقيات مع تركيا) ثلاث منها إلى سلطة الحكومة السورية، في حيت تقوم الآن بعمليات قضم تدريجية للرابعة والأخيرة (محافظة إدلب وجوارها).
علو يد روسيا في سوريا بقسمها الواقع غرب الفرات (باستثناء منبج والطبقة) قابله تراجع للدور الأمريكي والدول الغربية عموماً فيها، في حين تعزّز دور ونفوذ أمريكا في شرق الفرات (ومنبج والطبقة في غرب الفرات)، من خلال قيادتها للتحالف الدولي ضدّ داعش ودعمها لقوات وحدات حماية الشعب YPG التي توسّعت في إطار قوات سوريا الديمقراطية HSD من خلال ضمّ فصائل عسكرية عربية ومسيحية. استقرت صيغة لتقاسم النفوذ بين أمريكا وروسيا على أساس غرب الفرات (باستثناء منبج والطبقة) الذي عزّزت روسيا فيه تواجدها العسكري وأقامت عليه قواعد عسكرية عديدة؛ وشرق الفرات (مع منبج والطبقة) الذي أقامت أمريكا بدورها عدّة قواعد عسكرية ضمّ بعضها إلى جانب القوات الأمريكية قوات فرنسية وبريطانية في إطار التحالف الدولي المناهض لداعش، واستمرّت هذه الصيغة إلى حين بدء عملية تركيا الأخيرة لاحتلال مناطق كوردية في شرق الفرات.
ولأنّ تركيا كانت تحظى بدورٍ كبير في الأزمة السورية، حصلت منافسة بين أمريكا وروسيا على هذا الدور، وحاولت كلّ منهما جرّ تركيا إلى جانبها. وكانت هذه المنافسة في أكثر من مناسبة على حساب الكورد، منها عملية تركيا لغزو منطقة عفرين الكوردية واحتلالها (20 يناير/كانون الثاني 2018) بموافقة روسيا التي كانت لها قوات عسكرية في تلك المنطقة وسحبتها قُبيل بدء الهجوم، وبصمت أمريكي عنها، طالما أنّها لا تخرق صيغة تقاسم النفوذ القائمة، ومنها أيضاً عملية غزو تركيا للمنطقتين الكورديتين في شرق الفرات، بموافقة أمريكية، ورضا روسي عنها، طالما أنّها ستؤدّي إلى إخراج القوات الأمريكية، وتُضعف القوات الكوردية لصالح النظام السوري الذي ترعاه روسيا.
قبل عملية الغزو الأخيرة هذه، لم تكن لروسيا قوات عسكرية في شرق الفرات (عدا عدد قليل من الجنود في مطار قامشلو، من دون أسلحة ثقيلة)، مثلما لم تكن لها تفاهمات مع تركيا بشأن شرق الفرات.
بدأ التراجع الأمريكي في شرق الفرات ومنبج بالتفاهم الأمريكي-التركي بشأن منبج (30 مايو/أيار 2018)، وازداد هذا التراجع بإعلان الرئيس الأمريكي عزمه على سحب كامل قوات بلاده من سوريا (19 ديسمبر/كانون الأوّل 2018) بذريعة تحقيق هدف الحاق الهزيمة بداعش، الأمر الذي دفع بروسيا إلى التحرّك والاستعداد لملء الفراغ الذي سيخلفه هذا الانسحاب والعمل على التفاهم مع تركيا بشأن ذلك.
أدى الانسحاب الأمريكي من منطقتي سري كانيه وكري سبي، ولاحقاً من كوباني وأطرافها، وبدء عملية الغزو التركية، إلى اتفاقٍ روسي – تركي، ودخول القوات الروسية إلى منطقة شرق الفرات ومنبج، واصطحابها للقوات الحكومية السورية إلى الشريط الحدودي مع تركيا، خارج منطقة الاتفاق التركي-الأمريكي. وبذلك، تحوّلت روسيا إلى القوة الدولية المهيمنة للتفاهم مع تركيا، وأصبحت خطوط تماس القوات التركية والمجموعات المتطرفة المرتبطة بها مع القوات الروسية والسورية. وبالتالي، عمّمت روسيا نفوذها في سوريا ورسّخته. هذا الصعود في الدور الروسي في سوريا انعكس تزايداً وقوّة في نفوذ روسيا في عموم منطقة الشرق الأوسط، وأثار مخاوف حلفاء أمريكا الجدد والتقليديين في المنطقة من انحسار الدور الأمريكي المضطّرد، الأمر الذي يعرّضهم لمخاطر تتزايد في ظلّ التوتّرات الإقليمية خاصّة بين إيران وبعض دول الخليج.
المخاطر الروسية على الكورد:
بعد انسحاب القوات الأمريكية من المناطق الحدودية، وتركها للقوات الكوردية في مواجهة خطر الهجوم التركي، استغلّت روسيا هذه المخاطر لتُبرمَ اتفاقاً عاجلاً مع القوّات الكوردية تُلزمها بالانسحاب إلى عمق 30 كيلومتراً من الحدود ونشر القوات الحكومية السورية بدلاً عنها على هذه الحدود. وكانت روسيا ترغب في مواصلة هذا الاستغلال لفرض اتفاقٍ آخر على الجانب الكردي يتعلّق بالجانب الإداري ومصير القوات الكردية وفق الشروط السورية. القرار الأمريكي بالتراجع عن الانسحاب الكلّي للقوات وإعادة تموضعها في المناطق التي تسمّيها أمريكا بالمناطق النفطية أعطى للكورد فرصة عدم الخضوع التامّ للشروط السورية التي تودّ روسيا فرضها، الأمر الذي قد يعرّضهم لخطر تحريض روسيا لتركيا على شنّ عمليات أخرى على مواقع القوات الكوردية ومناطقها لدفعها إلى تقديم التنازلات للحكومة السورية. وقد ظهرت بالفعل بعض المؤشّرات على ذلك، من خلال الهجوم الواسع الذي شنّته المجموعات الاسلامية المتطرّفة المرتبطة بتركيا وبإسنادٍ من القوات التركية على بلدة عين عيسى في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، وكذلك قصف الطيران المسيّر التركي لبعض المواقع في شمال بلدة تل تمر، على الرغم من أنّ بعض المعلومات المسرّبة تؤكّد أنّ أمريكا كانت قد حصلت على وعدٍ من تركيا بأن توقف عملياتها العسكرية بحلول الحادي والعشرين من الشهر الجاري.
الموقف الدولي:
على الرغم من التعاطف الواسع للرأي العامّ العالمي مع الكورد وكذلك من الكونغرس والبرلمانات الأوروبية، والشجب الواسع من قبلها للغزو التركي الذي ظهر للرأي العام العالمي على أنّه انتقام دولة داعمة لداعش والنصرة وملحقاتهما التي جمعتها تركيا تحت مسمّى (الجيش الوطني السوري) من المقاتلين والمقاتلات الكورد الذين دحروا داعش نيابةً عن العالم، وعلى الرغم من أنّ مسؤولي معظم دول التحالف الدولي أعلنت أنّ الغزو التركي هو عدوانٌ على طرفٍ رئيسي في التحالف وأنّه يمنح الفرصة لإعادة إحياء داعش، إلّا أنّ هذا لم يتحوّل إلى موقف عملي يردع تركيا أو يعاقبها على غزوها الذي استخدمت فيه، حسب منظمات ووسائل اعلام دولية، أسلحة محرّمة دولياً، وقامت المجموعات الاسلامية المتطرّفة المرتبطة بتركيا بتنفيذ اعدامات ميدانية مصوّرة وموثّقة لمدنيين عزّل. وغياب هذا الموقف الحازم من القوى الدولية يُظهر أنّ هذه القوى تفضّل مصالحها المتبادلة، بما فيها مصالح تركيا المعتدية، على القيم التي تنادي بها.
خيارات الكورد:
القرار الأمريكي بالإبقاء على القوات في مناطق من شرق الفرات يُعيد إلى الكورد بالفعل إحدى أوراق القوّة التي كانوا على وشك خسارتها إلى جانب الكثير من الخسائر الأخرى التي تعرّضوا لها، ولكنّها غير كافية، في ظلّ غياب مشروع سياسي أمريكي مع الكورد لحلّ قضيتهم. ولذلك، على الكورد أن يسعوا إلى استحصال موقف سياسي أمريكي يدعمهم في الحوار مع الحكومة السورية، الحوار الذي تدعو إليه روسيا أيضاً من دون خطوات جدّية وفعلية.
على الرغم من التصريحات الروسية الإيجابية بشأن ضرورة ضمان حقوق الكورد في سوريا (تصريحات من الرئيس الروسي بوتين ووزير خارجيته)، وعلى الرغم من الحديث الروسي عن الحوار مع قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية والاستعداد للتوسّط في الحوار، إلّا أنّ روسيا لا تُبدي تصوّراً واضحاً بشأن جدّية الحوار وحلّ القضية الكوردية في سوريا. ثمّ أنّه من الصعب التصوّر أنّ روسيا مستعدة للضغط على الحكومة السورية من أجل القبول بحلّ للقضية الكوردية في سوريا لا تقبل به لا الحكومة السورية ولا شركاء روسيا في مسار أستانا، أي تركيا وإيران. خاصّة وأنّ تُركيا وإيران وسوريا تلتقي في العداء للقضية الكوردية، وهناك اتّصالات أمنية بين هذه الدول في مواجهة طموحات الشعب الكوردي.
موقف النظام والمعارضة السوريين:
يختلف النظام والمعارضة السوريين على كلّ شيء، ولكنّهما يتّفقان في الموقف من القضية الكوردية وحقوق الشعب الكوردي في سوريا. وهذا الموقف المشترك في معاداة الحقوق السياسية للكورد يعود في جزء منه إلى ثقافة العداء تاريخياً للكورد. إذ تمّ ترسيخ هذه الثقافة على مدى عقود، وبعض جذورها تعود إلى قرون، حيث تمّ شيطنة الكورد في الوعي الثقافي والمجتمعي الجمعيين، إذ تمّ تصوير الكورد على أنّهم دخلاء ومتربّصون بوحدة البلاد وساعون إلى تقسيمها والانفصال عنها، ثمّ، في الأعوام الأخيرة، أعوام العمل مع التحالف الدولي المناهض لداعش، على أنّهم عملاء وأدوات للأجنبي في مشاريعه المعادية.
رغم كلّ ذلك، يقع على عاتق الكورد العمل من أجل استحصال موقف أمريكي وروسي للضغط على الحكومة السورية للتوصّل إلى حلّ للقضية الكوردية في سوريا.
العامل الذاتي الكوردي:
تعاني الحركة الكوردية، منذ بدء الأزمة في سوريا، من انقسامٍ حادّ على محورين رئيسيين. وعلى الرغم من دعوة مظلوم عبدي، القائد العامّ لقوات سوريا الديمقراطية، الأطراف الكوردية إلى وحدة الموقف، وعلى الرغم من تصريحات بعض قادة المجلس الوطني الكوردي بأنّهم سيتعاطون بإيجابية مع هذه الدعوة، إلّا أنّ فرص تحقيق هذه الوحدة في الموقف الكوردي ضيئلة. فمن جهة، لايزال حزب العمال الكوردستاني مهيمناً على قرار قسد والإدارة الذاتية، ومن الصعب على السيّد عبدي تجاوز هذه الهيمنة والإيفاء بوعوده بلعب الدور الوسيط المستقلّ بين الأطراف، ومن جهة أخرى، لايزال القادة المتنفّذون في المجلس الوطني يصرّون على البقاء جزءاً من الائتلاف المعارض الذي تحوّل إلى أداة مطلقة التبعية لتركيا وأجنداتها. ولذلك من الصعب توصّل الطرفين إلى أيّ اتّفاقٍ جدّي، وسيستمر الطرف الأوّل في التفرّد باتخاذ الخيارات على الأرض وبشأن التعاطي مع الحكومة السورية، فيما سيستمرّ الطرف الثاني في المسار الذي يسلكه الائتلاف المُعارض.
خلاصات:
– الكورد خسروا الكثير من أوراقهم، لكنّهم لا يزال يحتفظون ببعضها، من قبيل قوّتهم العسكرية والشعبية، وتمسّكم بعدالة قضيّتهم، وحاجة سوريا إلى حلٍّ يضمن الاستقرار.
– الموقف الدولي والإقليمي الرسميين لا يميل لصالح الكورد، لأنّ القوى الدولية والإقليمية تميل إلى مراعاة مصالحها المتبادلة.
– على الكورد ألّا يستعجلوا في حرق أوراقهم، وألّا يتصرّفوا بعقلية المهزوم المستسلم، ولكن عليهم أيضاً ألّا يتأخّروا في تقييم نقاط قوّتهم وضعفهم والمبادرة وفقاً لذلك إلى طلب الحوار مع الحكومة السورية برعاية وضمانات حقيقية من روسيا ودعمٍ من أمريكا وأوروبا.
– من الصعب توقّع تحقيق وحدة الصفّ بين الأطراف الكوردية، وسيكون لاستمرار الانقسام في هذه المرحلة الحرجة جدّاً، بكلّ تأكيد، تأثيراً سلبياً على مردود مساعي كلّ طرف من الأطراف الكوردية.