الجزء الثاني
فلاديمير هو احد الأسماء الروسية ويعني حاكم العالم. نقاط ضعف هذه الدولة من ناحية المقاومة مثل عدم وجود حواجز طبيعية ووجود ثروة كبيرة كانو دوافع قوية لحكام موسكو للطمع في إحتلال اراضٍ اخرى لحماية انفسهم. وهذا مستمر منذ زمن بيتر الكبير(بطرس الأكبر) الذي كان يطمح في إحتلال إيران والهند ولغاية حكم فلاديمير اليوم. لدى الكرملين اي ما يعني القلعة، مخاوف مستمرة من الهجوم الخارجي وخصوصاُ من الغرب. لذلك يعتبر توسع الناتو والإتحاد الأوروبي تهديداُ مباشراً وصريحاً له.
في هذه السفرة لموسكو التقيت بأليكساندر دوكين والذي يسمى بالعقل الجيوسياسي للكرملين الآن. يعتبره جزء من الإعلام الغربي فاشي ومشجع للحرب والذي من خلال نظرياته فتح طريقاً للحرب، ويعتبره البعض الآخر من الروس فيلسوفاً وعالماً في المجال الجيوالسياسي. كان دوكين متذكراُ زيارته لأربيل عام 2007. يرى دوكين ان لا حل لروسيا سوى إعادة ترتيب ذاته في اوراسيا، ويمكن لذلك ان يكون ترجمة اخرى لبعض المصطلحات مثل الكتلة الشرقية، الإتحاد السوفيتي او روسيا القيصرية. اذا لم تفعل ذلك روسيا ستتعرض لهجمات من جوانب عدة، فإما يهاجمه الغرب ويستولي على جزء من اراضيها او تصل الصين الى سيبيريا عن طريق كازاخستان وتستولي على خيرات روسيا أو ستأتي قوة إسلامية من الأسفل إلى نهر الفولجا وتدمر روسيا. لذلك يرى ان إبقاء روسيا قوية هو الحل الوحيد. يرى دوكين ان اوراسيا هي قلب العالم وروسيا هي قلب اوراسيا لذلك يجب ان تترأس هذه الكتلة وان تقف ضد العالم الأحادي القطب. وهذا يتطلب أولاً قوة محلية قوية، ثم ترسيخ روسيا جوهر القوة في أوراسيا على أساس العرقية والدينية السلافية الأرثوذكسية، ثم تحالفات مع قوى شرقية أخرى مثل إيران والصين والهند وحتى بعض القوى الأوروبية. وتحدثت ماريا زاخاروفا، التي كانت قد وضعت زهرة كبيرة على ياقتها، عن تأثير الاستعمار الإعلامي، وقالت إن الناس في جميع أنحاء العالم لم يعودوا يحضرون دافوس ومؤتمر ميونيخ الأمني فحسب، بل يزورون هنا أيضًا. وحدثتها انا عن منتدى اربيل المقام في اقدم مدينة في كوردستان والشرق الأوسط وكان ذلك امراً ملفتاً لها.
قال بوتين خلال خطابه في منتدى التعددية القطبية في روسيا قال بأن الناس اتوا من 130 دولة وذلك دليل على ان سياسة تهميش روسيا هي سياسة فاشلة. حضر سيرغي لافروف بنفسه إلى المؤتمر وأكد أن روسيا ستواصل دبلوماسيتها العامة ولديها الآن أصدقاء أكثر من أي وقت مضى. وقال إنهم سيعقدون قريبا مؤتمراً عالمياً للشباب في سوتشي. ترى روسيا ان الغرب متعمد في نشر الخوف من روسيا(روسوفوبيا) ونكاية بالغرب هم يتحدثون عن الصداقة مع روسيا (روسوفيل) ويبدو أن هذا جزء من الدبلوماسية العامة الروسية التي جذبت انتباه الكرملين في السنوات الأخيرة، الأمر الذي أعطى زخماً أكبر لمثل هذه المؤتمرات والاجتماعات.
في طريقي الى المؤتمر كان جالساً جنبي شخصاً مكدونياً. سألني عن عرقي كان قد تائهاً بسبب لون بشرتي تخيل انني من الدول السلافية. عندما قلت له اني كوردي، قال مباشرة اها! انتم حلفاء امريكا واعداء روسيا. كان ذلك مضحكاً بالنسبة لي، لأن حكومته المكدونية هي حليفة امريكا. صححت له المعلومة وقلت ان الأكراد علاقتهم جيدة مع امريكا لكن ذلك لا يعني إطلاقاً معاداة روسيا. شرحت له وضع الكورد ثم قال انكم شعب مظلوم. كان يرتدي قلادة عليها الآلهة برون احد آلهة عصر عبادة الأصنام السلافي والذي هو آلهة القتال والسموات بالنسبة لهم. من الواضح انه كان متأثراً بأفكار إعادة إحياء الفكر السلافي بين روسيا وعدد من دول اوروبا الشرقية. قال انهم مختلفون مع الغرب من جميع النواحي. نحن نكتب بالحروف السريليكية وهم يكتبون بالحروف اللاتينية، هم ارثوذكسيين ونحن كاثوليكيين! كان عيني طوال الوقت على قلادته التي لا تمد بأي صلة الى المسيحيين الارثوذكس.
في الواقع تبدو الفكرة السلافية كأساس لإعادة إحياء الإمبراطورية الروسية الحديثة خيالية بعض الشيء لأن ما عدا بيلاروسيا وصربيا حلفاء روسيا، هناك حوالي 10 دول سلافية اخرى قريبين من امريكا واوروبا.
بعض الأحاديث في المؤتمر كانت معادة. وفي بعض الأحيان اصبح مثل إجتماعات الأحزاب الثورية فعندما كان يعجبهم الحديث سرعان ما يصفقون له. لاشك عند سماع الكلام المعاد ينعس الإنسان. شعرت اني اخذت غفوة لبعض الثوان ثم جذبني بشكل مفاجيء مصطلحاً ببا اسكوبار الإعلامي البرازيلي: جبهات المقاومة ضد الغرب! ذكرني ذلك الاسم ببابلو اسكوبار. كان قد اطلق قميصه على بنطاله ويتحث عن المقاومة الحوثية، السلافية واللاتينية ضد الغرب. يبدو انه استعار ذلك المصطلح من المقاومين الإيرانيين. ويمكن ان يكون ذلك وجهاً لإتحاد اليساريين والإسلاميين ضد الغرب، إتحاد الخصوم!
الشيخ عمران الذي هو رجل دين باكستاني ويعيش في امريكا اللاتينية لقد أخذ كلمة من دوغين واستشهد بعدة آيات من القرآن الكريم للترويج لقضية التعددية القطبية. تحدثنا في البداية قليلاً. قلت لا يمكن ان يستخدم القرآن فقط لغرض سياسي معين. وقف قليلاً ثم سألني عن ما كنت اقصد؟ قلت له استعنت بالآية الكريمة (إنا جعلناكم...) لتبرير تعدد القطبية بين الدول وأصحاب القوى، لكن ماذا لو انك تعيش مع دولة مسلمة وان تكون السلطة في يد قومية واحدة فقط وان تكون القوميات الأخرى مضطهدة؟ فمثلاً يضطهد الشعب الكوردي على يد اخوته المسلمين لكنه لا يضطهد على ايدي الأمريكان والروس. قال: انت محق. الأكراد من حقهم ان يقاوموا، لكن مثل من يريد ان يقول اترك هذا الموضوع قال من بعد "حرب كبيرة" التي ستكون حرباً نووية على حسب قوله وسينجو الكورد ايضا.
وبينما كان البعض يتحدث عن نظام عالمي جديد للعالم، كنت انا افكر بأنه من المستحيل للدول التي تعاني من عشرات المشاكل الداخلية المتراكمة ان تخلق نمطاً جديداً للعالم من الناحية العملية كنت ايضا افكر بمدى قدرة روسيا على حل الأزمة الكوردية من خلال علاقاتها في الشرق الأوسط؟ وثم اخبروني في مركز بريماكوف بذكرى للقائد مصطفى البارزاني مع بريماكوف احد وزراء الخارجية في موسكو والتي متعلقة بهذا السؤال. كان بريماكوف قد طلب من البارزاني ان يصلوا الى اتفاق مع بغداد، وكان قد وعده بأن يساعدونه. ورد بارزاني بأنه سيوافق، لكنه سيطعن من الخلف.
نقطة ضعف اخرى لروسيا في حربها الباردة مع الغرب هي اقتصادية. اعلن بوتين بأنه لديه خطة لتقوية إقتصاد روسيا وسيبقوا اقوياء. مارسيل ساريخوف مدير معهد ابحاث الطاقة والإقتصاد هو من تتر روسيا، يقول بأن إقتصاد روسيا شاهد نمواً بنسبة 2% في عام 2022 وكانت النسبة 3.6% السنة الماضية. بالطبع سيتوقف النمو الإقتصادي عاجلاً ام آجلاً في الدولة التي فيها حرب. ولمنع الحرب من أن يكون لها تأثير مدمر على حياة الناس، رفعت موسكو أسعار الفائدة المصرفية وزادت الإنفاق الحكومي لإعادة الأموال إلى السوق من خلال المدفوعات لموظفي الدولة وإعادة المشاريع وعودة الاموال الى السوق لإعادة تحريك العجلة الإثتصادية. ومع ذلك، فإن زيادة التضخم تلوح في الأفق أيضًا، بالإضافة إلى أن إرسال القوى العاملة إلى ساحات القتال سيقلل من قوة العمل في السوق. هذا بالإضافة إلى تأثير العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا.
أخبرني أستاذ جامعي أن الجليد سقط على سقف سيارته وأنه ينتظر منذ ثلاثة أشهر لإصلاحها، لكن لم يتم إصلاحها بعد لعدم توفر المعدات. لذلك، وعلى الرغم من التقارير الرسمية، لا يوجد مستقبل جيد للاقتصاد الروسي إذا استمرت الحرب في أوكرانيا لفترة طويلة. بلغ الناتج المحلي في روسيا عام 2022، 2.2 مليار دولار فقط ويعتبر هذا المبلغ ضئيلاً بالمقارنة مع 25.5 تريليون لأمريكا. لذلك هناك اناس في روسيا يتمنون عودة ترمب لكي تقف الحرب. انفقت روسيا 87.9 مليار دولار على الدفاع في 2022، بينما انفقت الولايات المتحدة 766.6 مليار دولار، بحسب تقرير عن التوازن العسكري العالمي. وفي العديد من القضايا الأخرى، مثل عدد الطائرات المقاتلة، هناك خلل في توازن قدرات الجانبين، لكن روسيا تمتلك المزيد من الدبابات والأسلحة النووية. وبحلول عام 2023، سيكون هناك أكثر من 5000 رأس نووي، 1674 منها جاهزة للانفجار، مما يجعلها أكبر ترسانة نووية في العالم.
وقال بوتين بعد تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن ضرورة التدخل العسكري المباشر في الحرب في أوكرانيا: “لدينا أسلحة يمكنها ضرب أهداف على أراضيهم”. ويشير هذا إلى إمكانية استخدام الصواريخ النووية التكتيكية في حالة تصعيد الحرب. لقد شهدت روسيا حرباً باردة مع الغرب، لكنها خسرت فيها، ربما هذه المرة، على الرغم من حصولها على دعم مؤقت من بعض الدول المعادية للغرب، لكنها لن تتمكن على المدى الطويل من التغلب على الغرب الذي هيمن على العالم منذ 500 عام سياسيا واقتصادياً. لكن السؤال الكبير هو ماذا سيحدث إذا أطلقت روسيا بالفعل صواريخ نووية؟ هذا سؤال يجب التفكير فيه مرتين.