مقدمة
من المرجح أن "اللعبة الكبرى" للدول على الشام اليوم ستترك تأثيراً ملحوظاً على إعادة تشكيل توازنات القوى في غرب آسيا. سوريا في عصر الجولاني هي نقطة تلاقي ثلاثة مشاريع جيوسياسية إقليمية كبرى: حلم تركيا الكبرى الذي يتحدث عنه أردوغان منذ سنوات، ومحور المقاومة الإيراني-الشيعي، والمشروع الإسرائيلي! وهذا يتوازى مع لعبة القوى العالمية الكبرى التي تمتد الآن على منطقة آسيا-المحيط الهادئ، والقطب الشمالي، وأوروبا، والشرق الأوسط، وأفريقيا. وكما في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، يسعى الجميع لإيجاد موقع لهم في هذه الألعاب الكبرى. أما بالنسبة للكورد، فعلى عكس الماضي حيث تم استبعادهم من اللعبة، فإن هناك الآن فرصاً أكثر من قبل متاحة للكورد، وربما يفتح خريف الأسد باباً لربيع كوردي، رغم أن مخاطر تكرار التاريخ ليست قليلة.
سوريا في عصر الجولاني والقضية الكوردية
وفقاً لبعض المصادر، ينتظر الجولاني حالياً رداً من مظلوم كوباني على المطالب التي ناقشوها في لقائهم، والتي يبدو أن خطوطها العريضة هي: وحدة سوريا، والحقوق الثقافية والمواطنة المتساوية، ودمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش الجديد بشكل لا يبقيها ككيان منفصل. بالإضافة إلى ذلك، خروج المقاتلين الأجانب!سلسلة من المطالب التي يبدو أنها لا تتضمن الكثير للكورد كمكون عرقي. لكن ماذا سيحدث إذا لم يتم تنفيذ هذه المطالب؟ هل سيحاول الجولاني، بدعم من تركيا، أولاً فصل المناطق ذات الأغلبية العربية مثل الطبقة والرقة ثم يحارب قوات سوريا الديمقراطية؟ هذا احتمال، لكن يبدو أن الجولاني ليس متعجلاً مثل تركيا لحسم هذه القضايا لأن:
قد تنجح تركيا في كسب دعم بعض عشائر قوات سوريا الديمقراطية إلى جانبها، لكن هذا قد يحرمها من الدعم الدولي الذي هي بأمس الحاجة إليه. الجولاني من جهة يعاني من محاولة محو وصمة ماضيه وماضي هتش من جبينه، ومن جهة أخرى يحتاج إلى أموال طائلة لإعادة إعمار بلد يعاني من حرب أهلية منذ أكثر من 13 عاماً وخلفت له اقتصاداً منهاراً. يقدر أن إعادة إعمار سوريا تحتاج إلى ما لا يقل عن 250 مليار دولار وقد تصل إلى تريليون دولار، حيث يعاني أكثر من 12 مليون من سكانها من انعدام الأمن الغذائي وفقاً للأمم المتحدة، ومن بينهم أكثر من 3 ملايين يعيشون في ظروف المجاعة. هذا إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي وصعوبة السيطرة على عشرات المجموعات المسلحة المختلفة. علاوة على ذلك، فإن دعم الدول الغربية والجهود الأخيرة لتوحيد الأطراف الكوردية بدعم من التحالف الدولي ضد داعش وإقليم كودستان قد عزز موقع الإدارة الذاتية في مرحلة ما بعد سقوط الأسد. كوباني ليست مستعجلة في حسم هذا الموضوع لأنها تدرك وجود صراع أكبر، وأيضاً لأنها تراقب محادثات أوجلان مع الدولة التركية على أمل أن يؤدي "انفتاح محتمل" هناك إلى تخفيف ضغوط أنقرة عليها.
في الواقع، ومهما كانت حسابات الجولاني - كوباني، هناك لعبة أكبر تجري على أرض الشام، وهي التي ستحدد على الأرجح مصير البلاد.
الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه مستقبل سوريا
سقوط الأسد يمثل سيفاً ذا حدين لإسرائيل؛ فمن جهة قلّل من التهديد الإيراني، لكنه من جهة أخرى جعل سلطة سنية جارة لها، وزاد من التهديد التركي. أما بالنسبة لتركيا، فإن سقوط الأسد ومجيء الجولاني يشبه رمي النرد المزدوج لتوسيع نفوذها الإقليمي عبر الحركات الإسلامية، لكن فيما يتعلق بالقضية الكوردية، فقد خلق لها معضلة تشبه حجر الطاولة المحاصر. إيران والعراق متضرران من سقوط الأسد، لكنهما يعتقدان أن اللعبة لم تنته بعد، وربما يحتفظان بأوراقهما لفرصة أخرى.
حصلت إسرائيل على فرصة نادرة، لكن مخاوفها تتزايد بشأن قدرة إيران على إعادة بناء طرق التهريب وإمداد حزب الله وحماس بالأسلحة على المدى الطويل، إضافة إلى عدم اليقين بشأن النظام السياسي المستقبلي في دمشق وتنامي الدور الإقليمي لتركيا.ورغم أن تقدم إسرائيل نحو المناطق العسكرية المحظورة على حدودها مع سوريا لا يكفي لإغلاق الممر البري الذي كانت إيران تستخدمه سابقاً لإمداد حزب الله بالسلاح، إلا أنه قد يكون مفيداً لنصب أنظمة رادار ومراقبة الهجمات الصاروخية والمسيّرات، وتعزيز نظام الاستخبارات.وكانت إسرائيل قد أعلنت في أكتوبر الماضي عن تدمير نفق بطول 3.5 كيلومتر قرب معبر المصنع الحدودي في منطقة دمشق، والذي كان يُستخدم لنقل الأسلحة إلى حزب الله. ويقع هذا النفق على بعد 30 كيلومتراً على الأقل من مرتفعات جبل حرمون التي تسيطر عليها إسرائيل حالياً.وشنت إسرائيل خلال العام الماضي 14,638 هجوماً على حزب الله، مما أدى إلى إضعاف قدراته العسكرية بشكل كبير. ومنذ وقف إطلاق النار في 27 ديسمبر/كانون الأول 2024، نفذت أكثر من 180 هجوماً إضافياً، مما قد يشير إلى أن تعزيز قوة حزب الله يمثل مصدر قلق استراتيجي لإسرائيل. وفي هذا السياق، تكتسب الحدود السورية اللبنانية أهمية بالغة لكلا الطرفين.
يبلغ طول الحدود 394 كيلومتراً، ولكن العامل الحاسم في إغلاق الحدود في وجه إيران ومحور المقاومة ليس إسرائيل فحسب، بل موقف سوريا ما بعد الأسد الذي يبدو أنه أغلق هذا الممر على الأقل في الوقت الحالي.
منذ السابع من أكتوبر، نجحت إسرائيل في إضعاف القدرات العسكرية لحماس، إلا أن الضفة الغربية تظل موقعاً استراتيجياً مهماً. فإذا تمكنت حماس على المدى الطويل من السيطرة على جبالها المطلة على المدن الساحلية الإسرائيلية، فإن ذلك سيشكل تهديداً أكبر لإسرائيل. وترتبط هذه المسألة ارتباطاً مباشراً بالحدود الأردنية-السورية، حيث يحتمل فتح طريق من الحدود الأردنية لتهريب الأسلحة إلى الضفة الغربية. ولهذا السبب، تتقدم إسرائيل نحو الشمال وحدود دمشق، وكذلك نحو السويداء والحدود السورية-الأردنية.من المنظور الإسرائيلي، فإن نظاماً مركزياً أيديولوجياً (سنياً متطرفاً) سيشكل تهديداً عسكرياً إن لم يكن اليوم فغداً. لذلك، خلال 48 ساعة من المطالبة بسقوط الأسد، تم تدمير حوالي 80٪ من القدرات والبنية التحتية العسكرية، حيث تسعى إسرائيل لوجود حكومة ضعيفة ونظام لا مركزي. وهنا تتفق مع تركيا في رغبتها بسوريا مستقبلية ضعيفة، لكنهما تختلفان حول طبيعة النظام السياسي المنشود. وقد تحدث وزير الخارجية الإسرائيلي مراراً عن علاقات بلاده مع الأكراد والأقليات في سوريا، وهذا تحديداً ما يثير قلق تركيا.
تركيا وسوريا الجولاني
لم يكن سقوط الأسد الخيار الأول لتركيا، لكن عندما حدث، خلق فرصة كبيرة لها لتعزيز نفوذها الإقليمي من خلال دعم الحركات الإسلامية. كانت هذه المسألة، خاصة خلال الربيع العربي وصعود الإخوان المسلمين في مصر، تُنظر إليها كخطوة نحو تحقيق "تركيا الكبرى - عصر عثماني جديد"، لكن هذا المشروع لم يتحقق آنذاك. يتصور المفهوم الجيوسياسي لـ "تركيا الكبرى" دولة تمتد نفوذها عبر رقعة جغرافية واسعة، من آسيا الوسطى إلى أذربيجان وجنوب القوقاز، مروراً بممر زنغزور. ومن الجنوب، تنفتح على العالم العربي ودول الخليج، مع امتداد نفوذها إلى أفريقيا، وتأثيرها من حدود البحر المتوسط إلى ليبيا. وتطمح أن يكون لها صوت مسموع بين القوى العظمى، مع اقتصاد قوي وقيادة للعالم الإسلامي السني.
مع صعود الجولاني كحاكم وأمر واقع في سوريا، فُتح أمام تركيا باب مباشر للتواصل مع العالم العربي، وازدادت آمالها في توسيع نفوذها الإقليمي. غير أن العائق الرئيسي الذي يواجه تركيا هنا هو أن فكرة "تركيا الكبرى" تتعارض في مواقع عديدة مع المشروع الإيراني لمحور المقاومة، كما هو الحال في القضية السورية وممر زنغزور في جنوب القوقاز، ومن المحتمل أن يتواجها في العراق مستقبلاً.وقد اتهم المرشد الإيراني تركيا أكثر من ثلاث مرات منذ سقوط الأسد بالتعاون مع أمريكا وإسرائيل، مشيراً إلى أن ثورة الشباب السوري ستقلب الأوضاع، في إشارة إلى احتمال نشوب حرب أهلية في سوريا. كما أشار نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق، في آخر مقابلة له إلى مخاوف من توسع تركي محتمل في العراق بعد سوريا.وتشعر مصر والأردن وبعض دول الخليج بالقلق من أن تعزيز قوة تركيا قد يؤدي إلى موجة جديدة من تقوية جماعات الإخوان المسلمين. أما إسرائيل، فلا تريد أن تواجه إيراناً ثانية، ولذلك تعتبر توسع النفوذ التركي تهديداً لها. باختصار، لا يريد حلفاء تركيا أن يصبح حليفهم قوياً لدرجة الخروج عن سيطرتهم، كما لا يريد خصومها ذلك أيضاً.
السؤال المهم الآخر هو ما إذا كان الجولاني سيبقى على علاقة وثيقة مع تركيا أم لا. من الواضح أن وضع الجولاني الحالي يختلف عما كان عليه في إدلب. فهو الآن يتمتع بسلطة وفرص أكبر، وبالنظر إلى تجربة طالبان وباكستان وكيف تصاعد التوتر بينهما بعد عودة طالبان إلى السلطة، لا يوجد ضمان أن الوضع في سوريا سيظل كما هو بالنسبة لتركيا. ولعل هذا هو السبب في أنها لم تعطِ الضوء الأخضر بعد لحل المجموعات المسلحة التي تدعمها مباشرة.يمكن لتركيا أن تلعب دوراً في إعادة إعمار البنية التحتية السورية، والتي قد تكون بمثابة دواء لاقتصادها الحالي. كما يمكنها إعادة جزء من اللاجئين السوريين البالغ عددهم 3,112,683 شخصاً، والذين كانوا أحد أسباب تراجع أصوات حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة. وفي حين أن هذا يمثل فرصة لها، إلا أن النقطة الأهم بالنسبة لأنقرة في الأحداث السورية كانت تغيير النظام السياسي الذي دعم حزب العمال الكوردستاني بلا انقطاع لأكثر من 4 عقود قبل 2024، باستثناء الفترة بين 1999-2003. فمنذ 1984 وحتى 2017، ومن بين 54 حالة من الدعم الخارجي المؤثر لحزب العمال الكوردستاني في حربه مع تركيا، كانت سوريا الأسد (الأب والابن) في المقدمة بـ 15 حالة دعم، متفوقة على جميع الأطراف الأخرى التي دعمت حزب العمال الكوردستاني. وكانت إسرائيل في ذلك الوقت داعماً قوياً لتركيا.
لم يعد الأمر كما كان في عهد الأسد، وتسعى تركيا الآن إلى حل قضية حزب العمال الكوردستاني وقوات حماية الشعب من خلال الضغط العسكري والمفاوضات المتوازية، مستفيدة من تجربة إسرائيل في حربها مع حماس وحزب الله، وكذلك من التجربة الإيرانية في إبعاد منظمة مجاهدي خلق والأحزاب الكوردية الإيرانية عن حدودها.وقد صرح الرئيس التركي بأن الدعم الذي كان يتلقاه حزب العمال الكوردستاني من الدول الأخرى لم يعد كما كان في السابق، حيث أن بعض هذه الدول منشغلة بمشاكلها الخاصة، في حين أن البعض الآخر لم يعد راغباً في تقديم هذا الدعم. ويمكن اعتبار هذا التصريح إشارة إلى كل من إيران والعراق والولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل!
یشیر وزیر الخارجیة التركي هاكان فیدان حول المكالمة الهاتفیة بين وزير الخارجية الإسرائيلي وإلهام أحمد من الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا قائلاً: "نحن على علم بكل شيء، لكن هذا الحديث لم يتحول بعد إلى تهديد عملي ضد تركيا".من المرجح أن تركيا تتطلع إلى تحسين علاقاتها مع إسرائيل مع عودة ترامب، خاصة مع إعلان وقف إطلاق النار في غزة. وكان ترامب قد تحدث في الفترة الماضية عن توسيع "اتفاقيات إبراهيم"، والتي قد تهدف إلى المصالحة بين تركيا وإسرائيل.ويبدو أن الضغوط الأمريكية للنظر في مطالب تركيا بشأن "المقاتلين الأجانب" في قوات سوريا الديمقراطية والتأكيد على أن وجودهم فقط لمحاربة داعش، قد تكون سبباً في تصريح أردوغان بأن الدول لم تعد تدعم حزب العمال الكوردستاني كما في السابق.وفي مؤتمر صحفي مع نظيره الأردني، أدلى وزير الخارجية التركي بتصريح حول العراق لم تسلط عليه وسائل الإعلام الضوء بشكل كبير. قال فيدان في السادس من الشهر: "لا نفهم لماذا يتغاضى أصدقاؤنا في العراق عن وجود حزب العمال الكوردستاني في سنجار". وبعد ثمانية أيام، أعلنت وزارة الداخلية العراقية في بيان أنها أخرجت بعض قوات سوريا الديمقراطية التي كانت متواجدة بالخطأ على الأراضي العراقية.وقد يكون المقصود الآخر من تصريحات أردوغان هو إيران عندما يقول "الآن يواجهون مشاكلهم الخاصة". فقد دعمت إيران حزب العمال الكوردستاني بشكل غير مباشر لأكثر من ثلاثة عقود، لكن يبدو أن تركيا ترى أن هذا لا ينبغي أن يستمر. وفي رده على سؤال حول لقاء قاآني-كوباني، قال فيدان: "نعتقد أن إيران ستتخلى عن هذه السياسة، ونحن لم ندعم معارضيهم". تصريح يحمل في طياته الأمل والتهديد معاً!
يمكننا القول باختصار أنه من غير المحتمل في الوقت الراهن ظهور دولة تشن حرباً على تركيا بسبب حزب العمال الكوردستاني وتدعمه علناً، ولكن من المتوقع أن يتم ذلك سراً. وفي الواقع، كان أحد الأسباب الرئيسية لبدء الحوار مع أوجلان هو قلق تركيا من تزايد الدعم الخارجي لحزب العمال الكوردستاني.
إيران وسوريا ما بعد الأسد
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى الآن، يُلاحظ تراجع في نفوذ القوى الشيعية في المنطقة: ففي لبنان، وبعد أزمة استمرت عامين، تم انتخاب رئيس للجمهورية بعيد عن حزب الله، كما تعرضت القدرات العسكرية للحزب لأضرار كبيرة، وانسحبت جماعات محور المقاومة من سوريا. ويظهر تنامٍ في النفوذ السني والكوردي في العراق، حيث يساور بعض السياسيين الشيعة في بغداد القلق من احتمال عودة ترامب للسلطة من جهة، وتعاظم الدور التركي في العراق من جهة أخرى، بما في ذلك احتمال وصول أنقرة إلى حقول نفط كركوك. أما في إيران، فثمة مخاوف من هجوم أمريكي-إسرائيلي محتمل على المنشآت النووية، واحتمال اندلاع احتجاجات داخلية، وعودة ظهور تنظيم "داعش" على حدود ديالى-كرمنشاه.ويتضح من تصريحات المرشد الإيراني علي خامنئي أن طموح إحياء محور المقاومة لا يزال حاضراً في المخيال الجيوسياسي الشيعي. إلا أنه من المرجح أن طهران لن تسعى إلى تحقيق ذلك في المدى القريب على الأقل، وستستخدم هذه الورقة كتهديد لتعزيز أوراقها التفاوضية. ومن المحتمل أن تسريب تسجيل صوتي لأحد قادة الحرس الثوري في سوريا، يتحدث فيه عن قدرة إيران على تفعيل شبكة المقاومة في سوريا، كان يهدف إلى تحقيق هذا الغرض تحديداً.
أجرت إيران في الفترة الأخيرة عدة مناورات عسكرية واستعرضت أسلحة جديدة لإظهار قدراتها العسكرية، في حين تتوارد من العراق أنباء متنوعة حول دمج الجماعات المسلحة في الجيش العراقي، وهو ما قد يُعد تحضيراً للمستقبل. وبحسب مصادر غير رسمية، لا تقتصر المخاوف على الجماعات المسلحة فحسب، بل تمتد إلى تصدير النفط لإيران، حيث حذرت شركة سومو بغداد من العقوبات المحتملة.
ويشكل احتمال إحياء تنظيم داعش مصدر قلق مشترك بين إيران والعراق. وقد بدأ العراق ببناء جدار على حدوده مع سوريا، كما أعاد 191 عائلة من عناصر داعش من مخيم الهول، في محاولة للسيطرة على الوضع هناك. وقبل أيام، نفذ الجيش العراقي عملية ضد داعش في حمرين، بينما أجرت إيران مناورة عسكرية في محافظة كرمانشاه على الجانب الآخر من حدود ديالى.
وتتجلى المقاربة المتوازية بين إيران والعراق في علاقاتهما الدبلوماسية أيضاً. ففي الوقت الذي زار فيه السوداني بريطانيا، تفاوض وزير الخارجية الإيراني مع الدول الأوروبية بشأن البرنامج النووي لبلاده، مما يشير إلى مساعي طهران لاتخاذ موقف دفاعي أكثر من كونها في موقع القوة والهجوم كما كان الحال سابقاً.
وعلى عكس تركيا وعلى غرار إسرائيل، قد تفضل إيران والعراق سوريا فيدرالية أو لا مركزية لمصلحتهما. ومع ذلك، يبدو أن شائعات تزويد قوات سوريا الديمقراطية بطائرات إيرانية مسيرة تظل أداة ضغط لمنع توسع تركي محتمل في العراق وممر زنكزور. وعلى الأرجح، رغم استياء كل من إيران والعراق من تعاظم قوة تركيا واعتبارهما التقدم الإسرائيلي في سوريا تهديداً، إلا أنهما يتجنبان حالياً المواجهة المباشرة.
بدأ العد التنازلي لتولي ترامب منصبه، حيث تترقب إسرائيل والدول العربية موقفه من سوريا. لكن الولايات المتحدة لم تعد تلك القوة المطلقة القادرة على حسم كل شيء. فمصير سوريا يتحدد من خلال ديناميكيات داخلية تشمل طبيعة العلاقات بين المجموعات المسلحة المختلفة، إضافة إلى تطلعات أوروبا ودول الخليج وتركيا.
ورغم تصريحات وزير الخارجية التركي حول عروبة الجمهورية السورية، من المرجح أن يتعزز موقع الأكراد في سوريا ما بعد الأسد أكثر من ذي قبل، خاصة مع وجود مساعٍ جادة لتوحيد الخطاب الكوردي في سوريا. وتتجاوز تداعيات الوضع السوري حدوده لتؤثر على القضية الكوردية في الشرق الأوسط بشكل أوسع.
ففي العراق، حصل إقليم كوردستان على فرصة جديدة للتعزيز موقعه. وفي تركيا، وبالرغم من الغموض الذي يكتنف "حوار أوجلان" حول كيفية الربط بين مسألة النزاع المسلح والحل المحدود للقضية الكوردية، إلا أن وجود الحوار يعزز موقع الأكراد في سياسة البلاد. وفي النهاية، كل هذه التطورات ستجبر إيران على اتخاذ خطوة بشأن القضية الكوردية، وهو ما أشار إليه حتى سيرغي لافروف من روسيا المقربة من طهران.
وبينما كان تعداد الأكراد في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى حوالي 4 ملايين نسمة، ولم تكن لديهم منظمة سياسية قوية لصياغة مطالبهم، فإن تعدادهم اليوم يصل إلى عشرات الملايين، مع وجود العشرات من المنظمات السياسية التي تتنافس في الساحة السياسية الكوردية. لذلك، لم يعد ممكناً تجاهلهم في اللعبة الكبرى كما كان في السابق!