الجزء الأول
الهواء البارد والحرب الباردة مع امريكا هو المشهد الأبرز هذه الأيام في موسكو. بهدف المشاركة في مؤتمر، زرت هذه المدينة للمرة الأولى والتي كنت قد سمعت عن جمالها كثيراً. المناظر الجميلة في موسكو تنسيك البرد احياناَ لكن احياناً اخرى ينسيك البرد جمال موسكو. سيرجي سائق الأجرة الذي كان ينقلني الى الفندق هو في الأصل صيدلي لكن بسبب الأوضاع الإقتصادية يعمل ايضاً كسائق اجرة, كان يقول انه ابن هذه المدينة ومقيم فيها منذ 54 عاماً وانها تكون جميلة جداً عندما يختفي الثلج، لكنه شيء وقتي وسرعان ما يختفي المشهد بعد 4 اشهر تقريباً واضاف ان روسيا بلد بارد جداً وليس من الغريب رؤية الثلج من اكتوبر ولغاية آذار. سألته عن الوضع الإقتصادي قال ان الوضع الإقتصادي كان جيداً قبل حرب روسيا لكنه الآن سيء. قال سيرجي ان اصله يعود لعائلة رومانوف الذين كانوا من قياصرة روسيا، لذلك اردت ان اسأله حول السياسة لكن قال انه لا يتدخل فيها. كان سيرجي يحدثني عن المصطلحات الروسية التي تعبر عن البرد وشرب الفوتكا الذي يعد مشروباً وطنياً في بلده بحسب تعبيره. كان يسخر من انوع المشروبات الروحية الأخرى مثل البيرة والشراب وقال انه ليس بإمكانهم مقاومة البرد.
في الحقيقة البرد القارس اي ما يسمى (موروز) باللغة الروسية لديه مكانة خاصة في الثقافة الروسية ولديه تأثير واضح على السياسة وعلى جميع مجالات الحياة فيها. يقول الروس انه لا يوجد موسم صعب اذا علمنا كيف نحمي اجسادنا. تلك النظرية لا تتطبق على الأجواء في بلادنا التي قد يصل فيها الحر الى 50 درجة مئوية لكن يمكنها ان تتطبق على الثقافة والدولة الروسية الارثوذكسية بهدف التأقلم والتعايش مع البرد السايبيري في المنطقة.
قال في الماضي روسو ان المناطق الحارة الحكم للحكومات الإستبدادية وفي المناطق الباردة الحكومات الحادة والشرسة وفي المناطق المعتدلة توجد الحكومات الجيدة. واعاد ابن خلدون جذور الدولة الى التفاوضات بين المهاجرين والمقمين الدائمين لكن ذلك حديث معقد وانا لا اريد ان اقول بأن النظام السياسي الروسي هو نتيجة الجغرافيا والمناخ الروسي. لكن ما اريد قوله هو ان خلف نوافذ موسكو السياسة تشبه بردها ايضاً فيجب ان تكون دوما حذراً من إحتمالية العدوان. اذا غفلت عنها للحظة يمكنها ان تثلجك مثل برد روسيا.
من ناحية الرؤية الجيوسياسية المسيطرة الآن في روسيا، يجب ان تكون الدولة صامدة مثل المباني الكبيرة وان تكون لديها الأسلحة والمعدات لكي لا يغدر بها العدو مثل البرد. في عام 1939 قال تشرشل رئيس وزراء بريطانيا آن ذاك " أنا متأكد أنه من وجهة النظر الروسية لا يوجد شيء أعظم من القوة ولا شيء احقر من الضعف، وخاصة الضعف العسكري" كأن بوتين الذي يحلم بإستعادة كرامة روسيا من جديد يثبت كلام تشيرشل، الذي سمى إنهيار الإتحاد السوفيتي باعظم مأساة جيوسياسية في القرن".
روسيا الآن في حرب حارة وباردة مع امريكا واوروبا، لو قلت ان جزء من ذلك متعلق بالبرد والجغرافيا. بمساحة جغرافية شاسعة تبلغ 17.125 مليون كيلومتر مربع، تعد روسيا أكبر دولة في العالم، حيث تبلغ مساحتها حوالي ضعف مساحة الولايات المتحدة وحوالي 40 ضعف مساحة العراق. بحسب بعض المعايير حتى في قرن 21 تحتاج الى 6 ايام لقياس مساحة روسيا من بدايتها الى نهايتها. وشكل ذلك مشكلة للكريملن لأن حماية بلد شاسع أمر صعب مثل كسر الثلج في الشتاء لكن هذا الأمر صعب ايضاً للقوى التي تريد السيطرة على روسيا، لأن إحتلال دولة واسعة كهذه يحتاج إلى قوة كبيرة من ناحية الجنود وقدرة لوجستية كبيرة وان تكون لديها القدرة على مقاومة البرد السايبيري المهلك لكي لا يتجمد الجنود.
يصف آلن اف تشيو (Allen F. Chew) في بحث البرد الروسي كجنرال في الجيش الروسي الذي غلب في عام 1708، 1812 و 1941 هزم جيش كارل الثاني عشر ملك السويد ونابليون وهيتلر حيث تجمد الكثير من جنودهم في البرد الروسي. وبطبيعة الحال، فإن البرد ليس صديقاً فحسب، بل إنه أيضاً عدو للجغرافيا السياسية لروسيا فهو يمنعها من بناء قوة بحرية كبيرة، وهو الأمر الذي يشكل كما زعم العديد من منظري الحرب، شرطاً أساسياً لكي تصبح القوة المهيمنة في العالم. تعاني العديد من الموانئ الروسية من مشاكل الجليد أو تصل إلى البحر الحر عبر مضيق تسيطر عليه دول أخرى. ويصل ميناء فلاديفوستوك، وهو الأكبر في روسيا، إلى المحيط الهادئ عبر بحر اليابان، وهي أيضًا حليفة للولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، يتم إغلاق الميناء أربعة أشهر في السنة، وبدون كاسحات الجليد، مما يعيق عمل روسيا وحتى التجارة.
ومن الرقبة الغربية، يمكن للسفن الحربية الروسية في سانت بطرسبورغ الوصول إلى المحيط الأطلسي عبر بحر البلطيق، لكن يجب عليها السفر عبر مضيق أورساند بين السويد والدنمارك. وبعد السويد وفنلندا، أصبحت دول بحر البلطيق الثماني الأخرى أعضاء في حلف شمال الأطلسي، الذي تأسس في الأصل لمحاربة روسيا. ومن الجنوب الغربي، يمكنها استخدام مينائي نوروسيسك وستوسوبول (في شبه جزيرة القرم) لأغراض عسكرية، لكنها تحتاج إلى موافقة تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. تتمتع روسيا بإمكانية الوصول إلى المحيط المتجمد الشمالي من الجزء الشمالي من حدودها، ولكن هناك عدو دائم لها، حيث يقوم بإغلاق وتعطيل الموانئ مثل مورمانسك في الشمال لمدة أشهر في السنة.
وفي طريق عودتي إلى الفندق، رأيت مكانًا بالقرب من مدينة موسكو أو في وسط المدينة تعرض لقصف طائرات بدون طيار أوكرانية. وبعيدا عن الطائرات بدون طيار، لا تتمتع روسيا بجغرافيا عالية وأنهار كبيرة جدًا ووديان شاسعة لتكون بمثابة حاجز طبيعي أمام تقدم قوة خارجية. عندما تجمع كل هذه الأمور معًا، يصبح من الأسهل فهم السياسة الخارجية الروسية في أوروبا الشرقية، والحروب في أوكرانيا وجورجيا وسوريا. ربما كان رسام كاريكاتير بريطاني هو أول من رسم الدب كرمز لروسيا، لكن الروس لا يمانعون ذلك. وصورة الدب موجودة على شعار حزب بوتين وعلى شعارات ثلاث مدن على الأقل. يسمون الدب ميدفيد، أي "آكل العسل"، وهو حكيم وقوي في نفس الوقت، ينام أحيانًا، ولكن عندما يغضب يخلط الحق بالباطل.