بعد مرور 26 عاماً، تم أخيراً نشر رسالة مصورة لعبدالله أوجلان، استخدم فيها مصطلح "الحركة الطائفية" لوصف حزب العمال الكوردستاني الذي دعا قبل فترة لحله. وسائل الإعلام المقربة من هذه المنظمة، ركزت بعد المؤتمر الثاني عشر، على استخدام مصطلح "حركة التحرر الكوردية"، وربما نسمع في المستقبل الكثير عن موضوع الطائفية الذي يبدو أنه استلهم من أفكار موراي بوكتشين عن بيئة الحرية والديمقراطية ومواضيع مشابهة. قد يكون بدء استخدام هذا المصطلح للتأكيد على ابتعاده عن الحركات الماركسية - اللينينية وحركات التحرر القومية التي لعبت دوراً مؤثراً في الحركات الكوردية لأكثر من أربعة عقود.
الزمن والعمر يغيران الإنسان والسياسة أيضاً؛ يتحدث أوجلان في تسجيل الفيديو عن أنه يعمل بحماسة وقوة كبيرة لإنجاز عملية "السياسة الديمقراطية"، لكن علامات الشيخوخة واضحة عليه. يتحدث بهدوء أكثر من السابق. خصص أوجلان الجزء الأساس من كلمته لتبرير اتخاذه قرار حل حزب العمال الكوردستاني ووقف القتال وإضفاء الشرعية عليه. في المشهد الذي يريد خلقه لتلك الشرعية، يوجد ستة معتقلين آخرين من حزب العمال الكوردستاني، جالسون إلى جانبه أو واقفون خلفه، وبذلك يريد أن يقول أن هذا ليس رأيي لوحدي.
منذ أن كان في الثلاثين ولأكثر من 46 عاماً، يرأس أوجلان حزب العمال الكوردستاني، ويبدو أن هذا أيضاً أحد عوامل تحوله السياسي. تجربة أوجلان تؤكد نظرية العمر في نتائج الحرب الأهلية إذ يقول إنه مع تقدم العمر، يصبح قادة الجماعات المسلحة أكثر ميلاً إلى السلم ويفكرون في ترك إرث، بدلاً عن التفكير في الانتصار؛ تماماً كما فعل ياسر عرفات في فلسطين في أواخر أيامه. في الواقع، من الممكن أيضاً أن يكون تحول أوجلان خطوة مهمة لإنهاء حرب طويلة الأمد ومرحلة جديدة في السياسة الكوردية في تركيا، رغم أنه لم يتضح تماماً بعد ما إذا كان سينجح تماماً أم لا.
يتضح تحول أوجلان أكثر عندما نعلم أنه كان في حينه زعيماً يسارياً أسس منظمة تطبق أفكار ماركسية لينينية وماوية على الشخصية كوردستانية. كان شديد الإيمان بدور "الشدة - القوة" في التغيير السياسي. أسس حزب العمال الكوردستاني وجيش التحرير القومي، وللمرة الأولى ابتدع التجنيد الإجباري للشباب الكورد، وفي المؤتمر الثالث للحزب، أوجد تقليد "الانتماء القومي الكوردي بالقوة" الذي يعني أن كل فرد كوردي مرغم إما على المشاركة في القتال أو مساعدة المقاتلين. كانت نتيجة هذا الحرب مع الدولة من جهة، والصراع مع المنظمات الكوردية المنافسة، من جهة أخرى. فبخلاف العديد من الأحزاب التقليدية الكوردية، بدأ حرباً طويلة الأمد استمرت لما يقرب من خمسة عقود، وبمطالب مثالية - أقصوية من قبيل توحيد واستقلال أجزاء كوردستان الأربعة، تلك الحرب كانت سبباً وجه قسماً من التغييرات في المجال السياسي الكوردستاني. وصف مام جلال، في حينه، من داخل برلمان كوردستان حزب العمال الكوردستاني بأنه "جسم غريب" على الحركات الكوردية، وأوجلان أيضاً كان يسميه سابقاً بحركة الرئاسة والآن بحركة الرفاقة الطائفية. بالطبع مهما اختلفت التعريفات، فإن أوجلان نفسه هو المفتاح الأساس لفهمه.
الشيفرة في رسالة أوجلان
مدة الرسالة المصورة كانت سبع دقائق وثماني ثوانٍ، تحدث فيها أوجلان ببطء، ولذلك نطق في تلك المدة 617 كلمة فقط. عبر فيها أكثر من 17 مرة وبصيغ مختلفة عن أهمية الوقت. ثم كرس جزءاً كبيراً منها لإضفاء الشرعية على دعوته وقراراته. على سبيل المثال، وصفها تسع مرات بالقرار أو الخطوة التاريخية. بعدها، ولإكمال حديثه، يؤكد على أن حزب العمال الكوردستاني حقق هدفه في مواجهة سياسة الإنكار، ولهذا فإنه يعمد إلى تغيير هدفه وأسلوب عمله أيضاً.
في بداية كلامه يقول: "رغم أن هذا قد يكون تكراراً، لكني أرى أن الإجابة الموضحة والخلاقة عن المشكلة وطرق حلها واجب أخلاقي يقع على عاتقي". هذا يُظهر أنه أجاب سابقاً على بعض الأسئلة لكنه لا يزال يرى ضرورة تكرارها، ويرى أن هذا مسؤولية تقع عليه؛ أي لا يزال هناك من لديهم علامات استفهام في أذهانهم تخص هذه المسألة. يبدو من كلام أوجلان يبدو أن التردد داخل حزب العمال الكوردستاني قد تكون ناجماً عن نقطتين: إحداهما الأسباب الأساس للتحول، والأخرى تتعلق بالضمانات التي سيتم الحصول عليها من الدولة.
يوضح أوجلان، مرتين على الأقل، أن هذا ليس هزيمة وأن حزب العمال الكوردستاني حقق هدفه ضد سياسة الإنكار وأن الاستمرار في الإصرار يعني الدوران في حلقة مفرغة. أما عن المخاوف التي تحيط مستقبل أعضاء حزب العمال الكوردستاني، فيشير إلى نقطتين: الأولى هي العملية القانونية والأخرى تأسيس حركة سياسية جديدة. استخدم تلك المصطلحات التي تشير إلى التغيير السياسي، 23 مرة على الأقل، وبذلك يبذل جهداً حثيثاً لتفسير سبب التغيير بالإشارة ‘لى مفاهيم ومصطلحات مثل الطائفية والمجتمع والسياسة الديمقراطية والسلام والديمقراطية وغيرها.
يقول إنه كتب بياناً يحل محل "نهج ثورة كوردستان"، والذي قد يعني بلغة عملية حزباً جديداً بديلاً عن حزب العمال الكوردستاني. على الأرجح من الناحية العملية هذا يعني تغيير المنظمات التابعة لحزب العمال الكوردستاني، وربما في نفس الإطار، سيتم تغيير دام بارتي في خريف هذا العام ليضم بعض أعضاء حزب العمال الكوردستاني. أما الأعضاء الذين لا يستطيعون العودة، فسيعملون في مؤسسات أخرى كالمنظمات التابعة لها، في أوروبا أو في أماكن أخرى.
أزلى أوجلان أهمية لتأثير الجانب النفسي على هذه العملية. فتحدث مرتين عن أن هذا إلقاء إرادي للسلاح وسماه تحولاً أكثر من كونه هزيمة. ثم وجه مرتين رسالة محبة إلى رفاقه. من البداية سمى حركته بالحركة الرفاقية الطائفية وفي النهاية تحدث عن الصداقة الأبدية. يبدو أن أوجلان مدرك لأن الموقف المختلف لكل فرد من أعضاء قيادة حزب العمال الكوردستاني يمكن أن يكون مؤثراً، لذلك أخذ بتلك الجوانب النفسية. هذا لم يكن موجهاً فقط لحزب العمال الكوردستاني، بل للرأي العام أيضاً وتحدث عن ضرورة تبديد المخاوف. على الأرجح ربط هذا أيضاً بخطوة عملية لنزع السلاح، لطمأنة الرأي العام.
وبشأن ضمانات الدولة، تحدث عن تشكيل اللجنة البرلمانية وأكد أنه يثق بالدولة. لذلك طالب حزب العمال الكوردستاني عدة مرات بتنفيذ متطلبات هذه المرحلة، وتحدث ست مرات على الأقل عن المرحلة الجديدة. تحدث عن ضرورة اتخاذ الخطوات الضرورية بعيداً عن فكرة "أولاً أنت ثم أنا"، وعلى الأرجح كان يقصد حزب العمال الكوردستاني في هذا، لأنه قال بعد ذلك: "أشعر أن تلك الخطوات لن تذهب سدى، أعلم أن هناك نية حسنة أثق بها". أيضاً، حاول الحث على الإسراع بعملية إلقاء السلاح وقال إنه لا يجب الحديث عن قضية إطلاق سراحي كشرط، وربط حريته بحرية المجتمع.
يقول أوجلان هنا إنه يفعل هذا بإرادته الحرة وما يقوله هو نتيجة لقاءاته في إمرالي. أي أنه رغم عدم تحول نزع سلاح حزب العمال الكوردستاني إلى اتفاق مكتوب بعد، فإنه يقول رسمياً إن هناك حواراً بينه وبين مسؤولي الدولة. منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن تم عقد 309 اتفاقيات سلام بين الدول والجماعات المسلحة الثائرة، وحزب العمال الكوردستاني ليس من بينها لأنه ليس اتفاقاً رسمياً بل غير رسمي. التجربة أظهرت أن نجاح مثل هذه العمليات، سواء كانت رسمية أم غير رسمية، مسألة حساسة جداً. فمن بين 309 اتفاقيات سلام، فشلت 110 منها بشكل نسبي في مدة 471 يوماً ولم تنجح، لكن أكثر من 64% نجحت.
لا يزال غير واضح إن كانت هذه العملية بين أوجلان - حزب العمال الكوردستاني/ الدولة ستنجح أم لا، لكن الواضح أن عدد العقبات أمامها يعادل عدد فرص نجاحها، وربما لا مكان هنا لمناقشة كل شيء، لكن الوقت كفيل باحتواء كل شيء.