تحليل

التعداد السكاني في العراق: فرصة ضائعة أم خطوة للأمام؟

01-12-2024


مقدمة

شهد العراق مؤخرًا أول تعداد سكاني شامل منذ 27 عامًا، حيث أُجري في 20 نوفمبر الجاري وما زالت المرحلة الثالثة منه لم تتم. على إثره، أعلن رئيس مجلس الوزراء في مؤتمر صحفي يوم الأحد الماضي أن عدد سكان البلاد "بلغ 45 مليونًا، و407 آلاف، و895 نسمة، من ضمنهم أجانب ولاجئون".

لكن في نفس اليوم، أصدر مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة بيانًا أعلن بموجبه أن مناطق من محافظة البصرة لم يشملها التعداد بعد.

محتوى استمارة عد السكان والمساكن

أصدرت هيئة الإحصاء ونظم المعلومات الجغرافية استمارة عد السكان والمساكن في العراق لعام 2024 بثلاث لغات: إنكليزي، كوردي باديني، كوردي سوراني، وعربي.

تتألف الاستمارة من أكثر من سبعين سؤالًا مفصلًا موزعة على اثنتي عشرة صفحة كبيرة، ما يجعل ملأها يتطلب وقتًا طويلًا. ومع ذلك، أفاد العديد ممن شملتهم عملية الإحصاء أنهم لم يُسألوا سوى عن أسمائهم وأعمارهم، دون التطرق لأي معلومات اخرى حتى نوع السكن أو ملكيته.

تشمل الاستمارة أسئلة تفصيلية، مثل الأسئلة من 216 إلى 223 التي تتناول بشكل دقيق العاهات التي يعاني منها الفرد، مثل ضعف البصر، السمع، المشي، التفاهم مع الآخرين، التذكر، واستخدام الأصابع. كما يتضمن السؤال 208 تسجيل المقيمين غير العراقيين.

وعلى الرغم من وجود سؤال عن الدين، الذي قد يكون الهدف منه تحديد كوتا الأقليات الدينية، فإن الاستمارة لا تتطرق إلى العرق أو اللغة أو المذهب، باعتبار أن هذه الجوانب لا تؤثر على حقوق المواطنة. ورغم وجود سؤال يحدد حالة الفرد كمهاجر، غالبًا ما تُهمل هذه التفاصيل أثناء تعبئة الاستمارة.

تتضمن الاستمارة أيضًا أسئلة مثيرة للإستغراب، مثل السؤال 204 الذي يسأل عن علاقة الفرد المقيم بالبيت برئيس الأسرة، ويقدم خيارات تشمل: خادم/سائق/حارس! بينما هؤلاء مواطنين يفترض أن يكون لهم أسر وبيوت، ويُسجلون ضمن أسرهم بدلًا من تصنيفهم بناءً على طبيعة عملهم.

أهمية التعداد السكاني

يشكل التعداد السكاني حجر الزاوية في تخطيط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، إذ تعتمد كافة القرارات والخطط على الأرقام والبيانات السكانية. توفر البيانات السكانية المعلومات اللازمة لتحديد الاحتياجات السكانية وتوزيع الموارد بشكل عادل، مما يساهم في:

- تحسين الخدمات الأساسية، مثل التعليم والصحة والبنية التحتية.

- تخطيط المشاريع الاستثمارية بناءً على أرقام وبيانات دقيقة.

- توجيه السياسات العامة لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية بين مختلف فئات المجتمع.

وفي بلد مثل العراق، حيث تعقد الصراعات السياسية والاجتماعية المشهد، يصبح التعداد أكثر من مجرد جمع بيانات، بل هو مرآة للوضع الداخلي ومؤشر على قدرة الدولة على تنفيذ المشاريع الكبرى بشفافية ودقة.

مع ذلك، فإن إجراء تعداد سكاني ناجح يتطلب استقرارًا سياسيًا، إجماعًا مجتمعيًا، وشفافية إدارية. ويبقى التساؤل: هل كانت الظروف مواتية لإجراء هذا التعداد الآن؟

نلخص أبرز التحديات التي تواجه التعداد السكاني في النقاط التالية:

1. التحديات الأمنية والسياسية

التعداد في العراق ليس مجرد عملية إحصائية؛ بل يحمل أبعادًا سياسية مرتبطة بتوزيع السلطة والثروة بين مكونات الشعب. المناطق المتنازع عليها، خصوصًا بين الحكومة الإتحادية وإقليم كردستان، كانت محورًا رئيسيًا للخلافات. بعض الأطراف شككت في حيادية العملية، وأخرى اعتبرتها محاولة لتغيير الحقائق الديموغرافية.

- البيئة السياسية المتوترة: يُستخدم التعداد كوسيلة لتحديد نسب تمثيل المكونات في المناصب السياسية والميزانيات والخدمات. في ظل الانقسام السياسي، من الصعب ضمان استخدام بيانات التعداد بشكل عادل وفعّال. الخلافات الحادة بين القوى السياسية حول توزيع الميزانية بناءً على نتائج التعداد تزيد من تعقيد العملية.

- التوترات الأمنية: تعاني بعض المناطق من أوضاع أمنية متوترة، مما يصعّب الوصول إليها ويؤثر على جمع البيانات بدقة.

2. الشفافية والمصداقية

واجه التعداد انتقادات واسعة بشأن شفافية تنفيذه. غياب الثقة بين المواطنين والمؤسسات الحكومية أدى إلى إحجام البعض عن المشاركة أو تقديم بيانات غير دقيقة. كما يخشى بعض المواطنين من انتهاك الخصوصية أو إساءة استخدام البيانات من قبل الحكومة.

- غياب خطة واضحة لما بعد التعداد: بدون وجود خطط استراتيجية لاستخدام البيانات، قد تبقى الأرقام مجرد وثائق غير مستغلة.

3. التحديات التقنية والإدارية

رغم الإعلان عن اعتماد التكنولوجيا في جمع البيانات، إلا أن التنفيذ واجه عقبات، منها ضعف تدريب الكوادر الميدانية، مما أثر على كفاءة العملية.

4. نقص البيانات والتخطيط

غياب التخطيط الاستراتيجي منذ عام 2003، لم تتبنَ الحكومات العراقية سياسات سكانية واضحة، ما أدى إلى غياب استراتيجية طويلة الأمد للتعامل مع النمو السكاني السريع.

5. تراجع الهوية الوطنية الجامعة

انعدام خطاب سياسي أو ثقافي يعزز الهوية الوطنية، واستبدالها بهويات فرعية طائفية أو إثنية، ساهم في تعزيز انعدام الثقة بين المكونات. أدى الخوف من هيمنة مكون معين إلى محاولات التلاعب بالبيانات، سواء من خلال تضخيم الأرقام أو التشكيك في نزاهة الإجراءات.

الفرص المتاحة للاستفادة من بيانات التعداد السكاني

على الجانب الآخر، يرى البعض أن مجرد إجراء التعداد يمثل خطوة إيجابية في حد ذاته للأسباب التالية:

1. إعادة تسليط الضوء على أهمية التخطيط: يمكن أن يشكل التعداد نواة لثقافة التخطيط على المدى الطويل، حتى وإن شابته بعض الإشكالات.

2. فرصة لبناء الثقة: رغم التشكيك، فإن النجاح في إعلان نتائج دقيقة ومقبولة قد يساهم في استعادة جزء من الثقة بين المواطن والدولة.

3. النمو الحضري مقابل الريفي: يساعد فهم توزيع السكان في معالجة تحديات التحضر، حيث تنمو المناطق الحضرية بوتيرة أسرع من المناطق الريفية.

4. تحفيز الإصلاح الإداري: الإشكالات التي قد تظهر خلال التعداد يمكن أن تكون دافعًا للدولة لإصلاح منظومتها الإدارية وتحسين كفاءة مؤسساتها.

ختام وتوصيات

للاستفادة القصوى من نتائج التعداد السكاني، ينبغي التوجه إلى النقاط التالية:

1. تعزيز الهوية الوطنية في الخطاب العام

تواجه الدول متعددة المكونات تحديات كبيرة في بناء هوية وطنية جامعة. العراق، بصفته دولة متنوعة طائفيًا وعرقيًا، يعاني اليوم من تنافس الهويات الفرعية التي تغلب أحيانًا على الشعور بالهوية الوطنية. خلال تنفيذ التعداد السكاني، ظهرت شكاوى من محاولات بعض الأطراف للتلاعب بالبيانات، مما يعكس ضعف الانتماء الوطني والخوف من استغلال النتائج لتحقيق مكاسب سياسية. يجب أن تتبنى الحكومة برامج توعية إعلامية وتربوية تسلط الضوء على أهمية التعداد كأداة للتنمية الوطنية، بعيدًا عن التنافس السياسي.

2. استمرار تحديث البيانات

ينبغي أن يُجرى التعداد السكاني بفواصل زمنية متقاربة، مثل أن تقوم كل حكومة جديدة بإجرائه، مما يعزز تدريب المنفذين والمجتمع وترويج ثقافة التعداد، وصولًا إلى بيانات دقيقة. لتقليل التكاليف، يمكن الاستعانة بمؤسسات المجتمع المدني، والأعمال التطوعية، والمعلمين، والشرطة، وإجراؤه في عطلة نهاية الأسبوع بدل تعطيل الدوام، كما حدث هذه المرة عندما عطّل الدوام ليومين في عموم العراق وثلاثة أيام في أغلب المحافظات.

3. تعزيز الشفافية والثقة بين الشعب ومؤسسات الدولة

يجب تعزيز الشفافية والمشاركة العامة لضمان نجاح التعداد السكاني. دون معالجة قضايا الثقة وسلامة البيانات الأساسية، قد يتحول التعداد إلى وسيلة لتكريس التفاوتات القائمة بدلًا من أن يكون خطوة نحو التقدم. كما ينبغي تطوير استراتيجيات تخطيط حضري تعتمد على البيانات السكانية لتلبية احتياجات السكان المتزايدة.

4. إطلاق ميثاق وطني للتعداد السكاني

يُقترح وضع اتفاق بين جميع الأطراف السياسية لضمان نزاهة العملية وحياديتها، مع إشراف لجان شعبية تضم مختلف مكونات الشعب العراقي لتعزيز الشفافية والمصداقية.

5. استخدام التكنولوجيا الحديثة

يتعين تطوير تطبيقات رقمية تسهل على المواطنين المشاركة في التعداد، وتقلل من احتمالات التزوير، مما يساهم في تحسين دقة البيانات وكفاءة العملية. رغم التحديات التي واجهت عملية التعداد السكاني في العراق، يمكن إعتبارها خطوة في الاتجاه الصحيح، إذ تمثل فرصة لتحديد الخلل ومعالجته مستقبلًا. إذا استُثمرت البيانات بشكل عادل وعلمي، قد تصبح قاعدة لسياسات تنموية فعّالة. لكن استمرار الخلافات السياسية والإدارية قد يحولها إلى فرصة ضائعة. يتطلب النجاح جهودًا حكومية ومجتمعية متكاملة لضمان دقة التعداد، ويبقى السؤال مطروحًا حول ما إذا كانت الحكومة الحالية تمتلك الإرادة لتجاوز العقبات وتحويل التعداد إلى نقطة انطلاق جديدة ام تضيفه الى قائمة الاخفاقات؟

Share this Post

تحليل