RRC | مريوان النقشبندي* |
غيرت فتوى سماحة آية الله (محسن الحكيم) الشخصية الشيعية العراقية المؤثرة، الشهيرة بتحريم قتال الكورد في العام 1965، المسار السياسي والعسكري في العراق حينها وفتحت آفاق علاقة جديدة بين الكورد والشيعة. في تلك الأيام، كانت الحركة القومية العروبية التي استولت حديثاً على السلطة في العراق تسعى باستمرار للقضاء على من تبقى من الشيوعيين من جهة وهزيمة الحركة التحررية الكوردستانية بقيادة البارزاني الخالد من جهة أخرى، كان الحكام القوميون للعراق يريدون من خلال تحريك المشاعر الدينية لسكان وسط وجنوب العراق، وغالبيتهم عرب مسلمون من المذهبين السني والشيعي، ليفرضوا سيطرتهم التامة على كل العراق، لهذا لجؤوا إلى كبار المراجع والمفتين الشيعة والسنة في الدول العربية الإسلامية، في سبيل دفع الجماهير لكراهية كلية للحزب الشيوعي من الناحية الآيديولوجية، من جهة، ومن الجهة الأخرى للعمل على القضاء عسكرياً على الحركة القومية التحررية الكوردية القوية التي أنشأها البارزاني الخالد، وإضعافها بحيث يضطر الكورد للقبول بأدنى حد من الحقوق.
تشير وثائق تاريخية إلى أن الشخصيات الإسلامية السنية بادرت بدون تردد إلى إصدار فتاوى تدعم الحكومة العراقية وهجومها على كوردستان، وكانت الأخيرة تنتظر وتحاول الحصول على فتوى المرجعية الشيعية.
في تلك الأثناء، أصدر سماحة آية الله الحكيم فتواه الشهيرة مستنداً في إفتائه بعدم جواز قتال الكورد إلى أن الغالبية العظمى من الكورد مسلمة لا يجوز قتالها، وسرعان ما انتشرت هذه الفتوى بين صفوف شعب العراق وأدت فتوى هذا المرجع الشيعي الكبير إلى إحجام القسم الأكبر من العرب الشيعة عن المشاركة بأنفسهم أو إرسال أولادهم لقتال الكورد، الأمر الذي جعل حكام العراق حينها عاجزين عن مهاجمة كوردستان بالقوة العسكرية.
كان لإبداء البارزاني الخالد الامتنان والشكر لموقف سماحة السيد محسن الحكيم، أصداء واسعة بين أبناء شعب كوردستان، الأمر الذي يمكن معه أن نقول إنه بعد هذه الفتوى بدأ الصراع بين الكورد والعرب عموماً، والكورد والعرب الشيعة خصوصاً، يتلاشى وحل محله تعاطف وعلاقات هامة بين الكورد والشيعة على المستويين الرسمي والجماهيري، وظلت الأجيال في كوردستان تتناقل هذا الموقف لسماحة الحكيم.
أخبرني القيادي الشيعي التركماني العراقي، الشيخ محمد تقي المولى، الذي ربطتني به علاقة ممتازة عندما كان رئيس الهيئة العليا للحج في العراق، بأن “فتوى سماحة آية الله محسن الحكيم جعلتنا نشعر بتعاطف كبير رسمي وجماهيري، وبصورة خاصة بعد الانقلاب البعثي عندما فتحت القيادة السياسية وشعب كوردستان وجبال كوردستان أحضانها لاستقبال كل أولئك الثوار والمعارضين الشيعة الذين ثاروا على النظام البعثي وخرجوا من ديارهم في وسط وجنوب العراق، فكان بيشمركة كوردستان وأبناء قراها وبلداتها يتقاسمون معنا لقمتهم ويؤوننا كما يفعلون مع بيشمركتهم”.
من جانبه، حدثني سماحة شهيد المحراب محمد باقر الحكيم، حيث التقيته قبل استشهاده عدة مرات بفضل عملي في وزارة الأوقاف ومسؤوليتي عن بناء العلاقات والتنسيق مع المركز والشخصيات الإسلامية في مواسم الحج، عن الموقف الشهم للرئيس مسعود البارزاني في أيام انتفاضة 1991 عندما وقع الآلاف من الجنود العراقيين وكان أغلبهم من أبناء جنوب العراق أسرى في يد قوات بيشمركة كوردستان، “فتم إطلاق سراح جميع أولئك الأسرى وإعادتهم إلى ديارهم وعوائلهم” رغم كل الظلم وعمليات القتل التي كان الجيش العراقي تحت إمرة صدام حسين قد اقترفها بحق الكورد.
من المشاهد الأخرى التي شهدتها بنفسي في ربيع العام 1988 عندما استولى الجيش الإيراني على مدينة حلبجة خلال الحرب الإيرانية – العراقية، وقامت الطائرات العراقية بقصف حلبجة بالسلاح الكيمياوي في 16 آذار، و على أثر ذلك سقط آلاف الشهداءو الجرحى من أطفال وبالغين ومن رجال ونساء، نتيجة هذه الإبادة الجماعية على يد النظام العراقي، وفي تلك الأيام، انقطع نحو 80 جندياً عراقياً غالبيتهم من الشيعة من جنوب العراق عن قطعات جيشهم بسبب حصار حلبجة، ولاذوا بأهالي حلبجة، لأنهم لم يكونوا يعرفون إلى أين يمكن أن يذهبوا “في تلك الأيام وبينما كانت جراح أبناء حلبجة تقطر دماً وكان الغاز السام يخنقهم واحداً تلو الآخر، قام الأهالي بحماية هؤلاء الجنود، بل هرّبوا بعضهم معهم إلى مدينة السليمانية وأرشدوهم إلى الطرق التي تؤدي إلى السليمانية والمناطق التي كانت الحكومة العراقية تسيطر عليها، ليعودوا إلى أهلهم سالمين.
هذه كلها كانت ثمرة فتوى المرحوم سماحة آية الله محسن الحكيم التي، وإلى جانب وجهها الديني، يرى فيها الكورد موقفاً إنسانياً وسياسياً أيضاً. لذا تم تكليفي بعد سقوط نظام البعث، كمسؤول في وزارة الأوقاف في إطار السياسة العامة لحكومة إقليم كوردستان ببناء علاقات جديدة مع المرجعية الشيعية، فرافقت عدة مرات وفوداً تمثل وزارة الأوقاف وأخرى تمثل الأديان المختلفة في إقليم كوردستان، إلى النجف وكربلاء، واجتمعنا مع ديوان الوقف الشيعي والحوزة العلمية في النجف وجامعة الكوفة وكانت لنا علاقات متينة، وقبل استفتاء العام 2017 زار رئيس ديوان الوقف الشيعي أربيل تلبية لدعوة منا وبتوصية من سماحة السيستاني واتفقنا خلال الزيارة على تشكيل لجنة مشتركة لتطوير العلاقات بين وزارة الأوقاف في إقليم كوردستان والمرجعية العليا في النجف، ويمكنني القول إننا مع المرجعية الشيعية العليا بنينا علاقاتنا منذ 2003 على أساس فتوى سماحة آية الله الحكيم، ويمكن أن لا تظل علاقات إقليم كوردستان مع المرجعية العليا الشيعية محصورة في إطار ديني واجتماعي وأن ننشئ بيئة تساعد على بناء علاقة إستراتيجية طويلة الأمد تؤثر بصورة مباشرة على العلاقات السياسية والاقتصادية، وأن تجري الاستفادة من التظاهرات الأخيرة في وسط وجنوب العراق.
أدى تأثير هذا الموقف التاريخي لسماحة محسن الحكيم بي ككوردي، إلى أن أحبه وأتعاطف مع كثير من آل الحكيم. حيث تربطني علاقات خاصة وأخوية مع السيد عمار الحكيم الذي زودني بنسخة من فتوى العام 1965 لسماحة آية الله محسن الحكيم التي حرمت قتال الكورد. كما ألقيت كلمة في مراسم خاصة أقيمت بأربيل قبل أشهر في ذكرى استشهاد شهيد المحراب سماحة محمد باقر الحكيم، وتسلمت جائزة (شهيد المحراب) من آل الحكيم.
يذكر أن سماحة آية الله محسن الحكيم من مواليد 1889م، وتوفي سنة 1970م عن 81 سنة.
* مدير دائرة العلاقات في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في حكومة إقليم كوردستان.