تحليل

لماذا الدين العام العراقي أسوأ مما يبدو عليه؟

28-10-2025


مقدمة

أصدر البنك المركزي العراقي مؤخراً بياناً يطمئن بشأن ديون الدولة، مشيراً إلى أنه لا توجد مخاطر كبيرة على الاقتصاد، وأن مجموع الدين الداخلي والخارجي يبلغ تقريباً أكثر من 81 مليار دولار.

استندت طمأنة البنك المركزي على حقيقة أن قانون الموازنة الثلاثية، كان يوجب اقتراض 191 تريليون دينار (146 مليار دولار) لسد العجز في السنوات الثلاث، لكن تم اقتراض 35 تريليون دينار فقط (26.9 مليار دولار). في نفس الوقت، أشار رئيس الوزراء العراقي في بيان إلى أن "المالية والاقتصاد العراقيان في أفضل حالاتهما، والتنمية والإعمار مستمران، والجدل الذي أثير بخصوص الدين الخارجي يأتي في أجواء الانتخابات وليس تقنياً".

تأتي هذه الطمأنة من البنك المركزي ورئيس الوزراء العراقي في وقت كان فيه الدين الخارجي للعراق قبل عشر سنوات ونصف 60.9 مليار دولار والدين الداخلي 9.9 مليار دولار، لكن حتى 31 حزيران 2025، بلغ الدين الداخلي 67.2 مليار دولار والدين الخارجي 14.45 مليار دولار. هذه الزيادة والانقلاب يستحقان التوقف عندهما، وهما مؤشران على عدة نقاط رئيسة عن الاقتصاد العراقي. السؤال هو: هل موضوع ديون الدولة العراقية دعاية انتخابية أم خطر حقيقي على مالية واقتصاد هذا البلد في المستقبل؟

انقلاب الدين الداخلي والخارجي في العراق

بشكل عام، زاد إجمالي الدين على العراق بنحو عشرة مليارات دولار خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة، حيث كان إجمالي الديون في 2010 يبلغ 70.8 مليار دولار، لكنه وصل بنهاية حزيران 2025 إلى 81.65 مليار دولار.

في الواقع، أرقام السنوات الخمس عشرة الماضية، وعلى الرغم من التذبذب الكبير في الديون، تشير إلى حدوث أمرين مهمين: الأول زيادة الدين، والثاني انقلاب الديون الخارجية والداخلية.

في العام 2010، بلغ إجمالي الديون الخارجية 60.9 مليار دولار، لكنه في حزيران 2025 بلغ 14.45 مليار دولار، أي أكثر من الرقم الذي ذكره رئيس الوزراء (1.5 مليار). في المقابل، كان الدين الداخلي في 2015 يبلغ 9.9 مليار دولار، وفي حزيران 2025 بلغ 67.2 مليار دولار.

في الواقع، سداد الديون الخارجية يرتبط بالعملية التي تلت العام 2003 أكثر من ارتباطه بوزارة المالية العراقية والبنك المركزي. على سبيل المثال، في سداد دين الكويت، كان البنك الأمريكي الذي تودع فيه عائدات العراق يخصم مبلغ دين الكويت عن كل برميل من النفط قبل تحويل الأموال إلى وزارة النفط، وحتى العام 2022، سدد العراق مبلغ 52.4 مليار دولار كدين إلى الكويت. هذه نقطة مهمة في تراجع الدين الخارجي.

كذلك، حدثت في السنوات (2016-2018) تغيرات كبيرة في ديون وإيرادات العراق بفضل إيرادات النفط، مثل انخفاض الديون إلى النصف ومضاعفة إيرادات النفط، حيث كانت إيرادات النفط في 2016 تبلغ 43 مليار دولار، لكنها تضاعفت في 2018 لتصل إلى 83.9 مليار دولار. هذا الارتفاع والانخفاض في إيرادات النفط هو ما يحدد ما إذا كانت أرقام الديون تزيد أو تنقص، وما إذا كان هناك عجز أو فائض في الحساب الختامي للسنة المالية العراقية، أكثر مما تفعل السياسة الاقتصادية والإنفاقية للدولة.

الرسم البياني (1): العجز والفائض المالي بين الإيرادات والنفقات السنوية في العراق للسنوات من 2015 إلى 2024

المصدر: وزارة المالية العراقية، موازنة العراق، التقرير الشهري للإيرادات والنفقات، 24/ 10/ 2025

في الواقع، خلال فترة هذه الحكومة العراقية، زاد إجمالي الديون بمقدار 14.26 مليار دولار، لكن مرة أخرى هناك انقلاب بين الدين الداخلي والخارجي، حيث زاد الدين الداخلي بـ18 مليار دولار وانخفض الدين الخارجي بأربعة مليارات دولار، وهذا يُبرز إشارة مهمة جداً: مثل إظهار غياب الثقة الخارجية بإقراض العراق لسد عجزه الاقتصادي، والمزيد من الضعف في جلب الديون الخارجية للاستثمار وإنعاش القطاعات المختلفة.

الرسم البياني (2): الدين الداخلي والدين الخارجي وإجمالي الديون من 2010 إلى حزيران 2025/ مليار دولار

المصدر: وزارة المالية العراقية، موازنة العراق، لوحة معلومات الديون، 21/ 10/ 2025

متى يكون الدين خطراً ولماذا؟

في الفترة من 8 إلى 13 تشرين الأول 2025، كان أحد المحاور الرئيسة في الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي يتمثل في ارتفاع ديون القطاع العام والدول في العالم، حيث بلغ إجمالي ديون الدول في العالم 115 تريليون دولار، وديون أمريكا والصين تشكل نصف هذا الرقم.

وفقاً لصندوق النقد الدولي، تخلق زيادة دين القطاع العام وتجاوزه نسبة 100% من إجمالي الناتج المحلي، عدم يقين كبير ومستقبلاً غامضاً في اقتصاديات الدول، ولهذا السبب من المهم الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن تجري الدول إصلاحاً كبيراً في موازناتها، لأنها بحاجة إلى احتياطي مالي لتتمكن من الاستجابة السريعة للأحداث الاقتصادية الكبرى في المستقبل.

العراق من هذه الناحية مثال مختلف، لأنه في موازنته الثلاثية وضع خطة إنفاق سنوي تقارب 200 تريليون دينار أو 153 مليار دولار، بينما إجمالي إيراداته النفطية وغير النفطية 134 تريليون دينار أو 103 مليارات دولار، أي أن الموازنة الثلاثية فتحت يد الحكومة العراقية لعجز أو دين سنوي قدره 50 مليار دولار. على الرغم من أن الحكومة العراقية والبنك المركزي يدعيان الآن النجاح في السيطرة على الديون في هذه الفترة بمقدار 26 مليار دولار، إلا أن الضعف الكبير للعراق يأتي من اعتماده على النفط، وسواء تغير سعره وانخفض أو حدث حادث مثل الذي حدث يومي 26 و27 تشرين الأول 2025 في البصرة وتوقف التصدير.

كذلك، أدت زيادة الدين وارتفاع الفوائد على الديون إلى عدم قدرة الدول على سدادها، بل واستمرارها في الزيادة، وهذا الخطر هو ما شغل طوال أيام الاجتماع السنوي لكلتا المؤسستين الكبيرتين العالميتين، والعراق مثال واضح بمعدل الفائدة المصرفية (10%).

في الواقع، يتفاقم خطر هذا الدين عندما يكون الدين للإنفاق التشغيلي وتغطية احتياجات القطاع العام، وفي مقدمتها دفع الرواتب والتقاعد والمساعدات المالية، وليس للاستثمار في القطاعات المختلفة وتحويل الاقتصاد، وقد أظهر العراق من خلال السنوات الماضية أن زيادة الديون كانت للإنفاق التشغيلي وليس للاستثمار.

على سبيل المثال، ضعف نمو الإنفاق الاستثماري مقارنة بالإنفاق التشغيلي، ففي الفترة بين 2015-2024 نما الإنفاق الاستثماري بنسبة 27% بينما نما إجمالي النفقات بنسبة 54%، فعندما كان إجمالي النفقات في 2015 يبلغ 70 تريليون دينار، كان الإنفاق الاستثماري من هذا المبلغ 18.5 تريليون دينار، ثم في 2024 عندما بلغت النفقات العامة 150 تريليون دينار، لم يتضاعف الإنفاق الاستثماري بل أصبح 25 تريليون دينار فقط.

خطر آخر لهذه الديون الداخلية هو أن معدل فائدتها مرتفع جداً، يتراوح بين 7% إلى 10%، اقترضتها الحكومة العراقية من المصارف وهي ليست طويلة الأمد. لذا فإن تراكم الديون يجعل من المستحيل سدادها في حالة صدمة انخفاض أسعار النفط، بل قد يجلب أزمة كبيرة لإفلاس المصارف والمصارف الخاصة أيضاً في العراق.

انقلاب الديون يظهر ضعف النظام الاقتصادي العراقي خارجياً، خاصة عند المصارف الكبرى للإقراض، لأنه لو لم تكن هذه الديون داخلية وكانت المصارف الكبرى مصدرها، لكان الشرط الأول لمنح القروض هو الاستثمار وآلية لسداد الديون في فترة محددة بدلاً من السماح بتراكمها، والمثال الأوضح جاء سنة 2016 عندما تعرض العراق لانهيار أمني وانخفضت أسعار النفط، منح صندوق النقد الدولي بشروط خمسة مليارات دولار كقرض حتى لا ينهار اقتصاد العراق، وضمت الشروط إعادة هيكلة إنفاق الدولة وتقليل العجز في الموازنة السنوية وزيادة النفقات الاستثمارية.

الخاتمة

صحيح أن العراق يمتلك احتياطياً من 162 طن ذهب ومخزون نفطي مثبت قدره 150 مليار برميل، لكن إدارته الاقتصادية هي بطريقة تجعله مديناً باستمرار، وأي صدمة داخلية أو خارجية ستكشف ضعفه بسبب النقاط الآتية:

أولاً: نسبة الديون إلى إجمالي الناتج المحلي (GDP)، تشير تحليلات وزارة المالية والبنك المركزي للديون إلى ناتج محلي إجمالي عراقي بنسبة 42%، بينما لأن العراق يعتمد على النفط وإيرادات النفط تشكل 90% من الإيرادات الشهرية، يجب أن يكون تحليل الديون بالنسبة للنفط وليس إجمالي الناتج المحلي. وبهذه الطريقة تصل النسبة إلى أكثر من 120%، وهي نسبة أعلى بـ20% مما حذرت منه المؤسستان الاقتصاديتان الكبيرتان في العالم.

ثانياً: هذه الديون اقترضت من المصارف الداخلية ولم تؤدِ إلى جلب الاستثمار إلى العراق وزيادة إجمالي الناتج المحلي العراقي، بل جرى اللجوء إليها في أوقات انخفاض الإيرادات الداخلية وانخفاض أسعار النفط لسد الإنفاق التشغيلي في البلاد، وهذا هو مصدر الحديث الآن عن نقص السيولة وانخفاض قدرة الدولة على دفع المستحقات المالية.

ثالثاً: هذا الانقلاب في الدين الداخلي والخارجي من حيث المبلغ إشارة إلى انكماش وضعف الاقتصاد العراقي، لأنه يُظهر أن المصارف الكبرى في العالم غير مستعدة لإقراض بلد يكون إنفاقه التشغيلي أربعة أضعاف الاستثمار ويكون استثماره الوحيد في النفط والغاز.

رابعاً: صحيح أن الدين الداخلي لا يشكل خطراً على الدول بقدر ما يفعل الدين الخارجي، لكن لا ينبغي تجاهل أن الدين الداخلي لا يمكن أن يحول اقتصادك إلى مستوى اقتصاد اليابان، بل يجعلك تُصنّف مع لبنان.

خامساً: يجب أن يكون الدين للاستثمار وزيادة الإنتاج والأرباح بدلاً من أن يتراكم، على سبيل المثال عندما تقترض شركة كرسنت بتروليوم وداناغاز عبر أمريكا مبلغ 250 مليون دولار لتوسيع مشروع غاز كورمور، فإن هذا الدين يساعد على مضاعفة إنتاج الغاز وبالتالي إلى زيادة إيرادات الشركة. على سبيل المثال، كان صافي ربح الشركة في الأشهر الستة الأولى من هذا العام 73 مليون دولار، بالتأكيد عندما يتضاعف إنتاجها سيتضاعف ربحها أيضاً لأكثر من الضعف ويساعدها في تسديد دين الاستثمار في فترة قصيرة. هذا النوع من الدين لا يصبح مشكلة ولا يخلق خطراً، على عكس دين الدولة العراقية المتوقع أن يتجاوز 81 ملياراً بنهاية العام، لأن سعر النفط ليس بالمستوى الذي يمكنه تغطية النفقات.

سادساً وأخيراً: دين العراق خطير وليس دعاية انتخابية أو تقنياً، وقد اتخذ مساراً خاطئاً سيؤدي، إذا لم يُعالج، بالاقتصاد والدولة نحو الكارثة.

Share this Post

تحليل