بعد ما يقارب العشرة اعوام اصبحت كوباني نقطة تحول من جديد، نقطة تحول سياسي وعسكري حيث ان عام 2014 ساعدت اميركا والبيشمركة وحتى تركيا وحدات حماية الشعب(يبكة) لكي لا تقع المدينة تحت ايدي داعش. والآن في اواخر 2024 هناك صراع كبير بين قسد وتركيا والجماعات المعارضة على مساحة المدينة البالغة 7كم2. والظاهر ان تأثيراتها ستجتاز الحدود. وقد يكون ذلك نقطة تحول لمستقبل سوريا والقضية الكوردية والسياسة التركية والعديد من الدول المؤثرة في الساحة السياسية الجديدة في الشام. هناك الآن قلق سياسي وعسكري وصورة معاكسة حول الوضع الميداني للصراعات. من ناحية هناك مواقف عملية من الجانبين ومن ناحية اخرى اهمل الجانبين اتفاقية وقف اطلاق النيران مراراً والذي كان قد اعلن تحت ضغط الولايات المتحدة والتحالف الدولي. اصبح وضع كوباني بالنسبة لتركيا اشبه باللغز السياسي لكنه معضلة تاريخية لقسد ايضاً. وقد يستمر هذا الغموض حتى تسلم ترامب السلطة وتثبيت افتراضي لمبادئ حكم الجولاني في دمشق.
تركيا ولغز كوباني
بعد سقوط الأسد وانسحاب قسد من تل رفعت ومنبج والمناطق الكوردية في حلب جدد الأمل التركي في طرد قسد من كوباني وحلها سواء كان عن طريق التهديد او حرب محدودة، لكن لم ينجح ذلك والآن السيطرة على كوباني من خلال حرب كبيرة اصبح لأنقرة كالسيف ذو الحدين. من الأساس هناك عدم وضوح حول الرغبة التركية الحقيقية حول قسد ومستقبل الإدارة الذاتية. حيث صرح هاكان فيدان وزير الخارجية التركي لمراسل رووداو يوم 8 ديسمبر في الدوحة انه اذا لم تغير قسد من نفسها فسوف لن يكون لديها مكان، مما يعني انهم لم يغلقوا الباب في وجه قسد. وفي اليوم الثاني طلب حل القسد وطرد قادتها من سوريا. لكنه بعد ذلك قلل الحديث عن قسد واصبح يتحدث اكثر عن حزب العمال الكوردستاني ووحدات حماية الشعب(يبكة) وحول مسألة حل قسد بشكل من الأشكال الى الجولاني.
ويظهر ذلك نوعا من الليونة بالمقارنة مع مواقفه السابقة مما يعني ترك باب الإتفاق مفتوحا نوعا ما. لأن قسد كانت تريد ان تكون جزء من القوات السورية حتى في وقت حكم الأسد مع الحفاظ على خصوصيتها. ذلك ما عدا ان تنظيمات مثل وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكوردستاني لديهم تاريخ حافل في تغيير اسمائهم. على الأغلب ستتقبل تركيا قسد شرط ان تنسحب فعليا من قنديل وان تتخلى عن اسلحتها الثقيلة. مما يعني ان تركيا قد لا ترفض فكرة تغير قسد الى قوات محلية او جزء من الجيش السوري.
وبالنظر إلى تجربة العمليات التركية السابقة على خطوط جرابلس - الباب وعفرين وسري كاني، والتي استمرت إحداها نحو شهرين والثانية ثمانية أيام والثالثة نحو سبعة أشهر، وباعتبار أن ثلاث جهات من كوباني محتلة الآن ومساحتها محدودة، يمكننا القول أنه إذا أرادت تركيا ذلك فيمكنها احتلال المدينة في وقت قصير. قد لا تكون مهمة تركيا سهلة بسبب الاستعدادات الدفاعية لقسد مثل الأنفاق وغيرها من التدابير الدفاعية واستخدام المسيرات، لكن بالرغم من كل ذلك تركيا قادرة على السيطرة عليها. لكنه من الظاهر انها لا تريد ذلك بسبب:
- قبل كل شيء القوات الاوروبية مثل المانيا وفرنسا ضد ذلك واميركا لا تريد الحرب. لا تقل حاجة تركيا لأميركا والدول الأوروبية عن حاجتها للتمويل الخليجي لإبقاء حكومة دمشق الحالية على قدميها. روسيا، باعتبارها إحدى الدول الضامنة لوقف إطلاق النار بين تركيا وقسد، انسحبت مؤخرًا من القاعدة الجوية في القامشلي، مما يجعل الولايات المتحدة مفتاح مستقبل الأحداث في شمال شرق سوريا. على الأرجح، لن ترغب الولايات المتحدة في حل قسد حتى تتأكد من الشكل الذي ستبدو عليه إدارة الجولاني في سوريا، وحتى تتأكد مما إذا كانت حرب أهلية ستندلع عام 2025 ام لا. على الأقل يبدو أنها تريد أن يتم ذلك بالاتفاق ويستغرق بعض الوقت إذا حدث ذلك. كما انها تريد التأكد من تأثير الوضع في سوريا على الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية والقضايا المتعلقة بأمن إسرائيل والأردن. تهديد عدد من أعضاء الكونغرس بمعاقبة تركيا في حال الهجوم على كوباني، فضلاً عن إعلان البنتاغون أن عدد القوات في المنطقة الخاضعة لسيطرة قسد من 900 إلى أكثر من 2000 جندي وخروج عدد من جنود قوات التحالف الدولي الى كوباني بمثابتة ضغط سياسي على تركيا. ويبدو أن تركيا فشلت في إقناع إدارة بايدن بمهاجمة كوباني وحل قسد. لذا فمن المرجح أن ترى ما إذا كانت قادرة على إقناع ترامب بالانسحاب من سوريا العام المقبل، كما فعلت في عام 2019.لكنها تريد قدر المستطاع ان تغير الواقع الميداني لصالحها.
- وكما قال وزير الخارجية الألماني، فإن كوباني اسم رمزي في الحرب ضد داعش. الهجوم التركي الافتراضي على كوباني، والذي من المتوقع أن يؤدي إلى نزوح العديد من الأهالي وسقوط العديد من الضحايا، قد يثير رد فعل من الرأي العام العالمي. بعد تصريحات مظلوم عبدي لمعالجة مخاوف تركيا ومقترحاتها لإنشاء منطقة منزوعة السلاح، رحيل المقاتلين الأجانب من قسدالذي يمكن ترجمته على أنه حزب العمال الكوردستاني ومن الممكن أن تؤدي جهودها للتوصل إلى اتفاق مع الأحزاب الكوردية الأخرى -المجلس الوطني الكوردي في سورياــ إلى إنهاء حرب كوباني بشكل مشروع على حساب تركيا. وهذا قد يسبب توترات في الرأي العام التركي، كما حدث قبل 10 سنوات.
- ومن المفارقة أن استمرار الحرب يمكن أن يلفت انتباه كل من إسرائيل وإيران ومصر ودول أخرى إلى القضية الكوردية في سوريا، والتي لا تستفيد من نجاح المشروع التركي. لدى إسرائيل مشاكل مع تركيا بشأن حماس، وقد تحدث وزير خارجيتها مرتين هذا الشهر وحده عن العلاقات مع أكراد سوريا. انتقد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي تركيا مرتين، دون أن يسميها، بسبب ثورة الشباب السوري ضد من أسماهم "المتآمرين". ليس من الواضح ما الذي سيحدث، لكن في حال اندلاع حرب واسعة هناك ارضية مناسبة لقسد لإستقبال مساعدات خارجية لإستمرار حرب حزبية حتى اذا ادى ذلك الى خسارة حكمها الذاتي. تدرك تركيا تأثير الأحداث في الشرق الأوسط على القضية الكوردية، لذلك أدلى زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي بمفتئه الشهير لأوجلان وطلب منه التحدث في البرلمان. بالطبع عمر عبد الله أوجلان 76 عاماً وإذا مات في السجن سيكون هناك عائق أمني جديد أمام تركيا، والدولة لا تريد أن يصبح أوجلان قضية أمنية مرة أخرى. ذلك ما عدا وجود اعتبارات سياسية اخرى وراء انفتاح بهجلي لكن السبب الرئيسي كان مخاوف تركيا بشأن إمكانية تقديم المساعدة لحزب العمال الكوردستاني من قبل القوى المنافسة له. كما يمكن أن تزيد الحرب المطولة في سوريا من مخاوف تركيا.
معضلة قسد من الوضع السوري الجديد
في الواقع، لم تكن مبادئ تأسيس قسد والإدارة الذاتية لغرب كوردستان مرتبطة بالديناميكيات الكوردية الداخلية فحسب، بل تأثرت أيضًا بحدثين مهمين؛ اتفاق الأسد وحزب العمال الكوردستاني في أعقاب الربيع العربي وانسحاب الجيش السوري من المناطق الكوردية، وكان الاتفاق الآخر هو القتال ضد داعش. ولمنع انتشار المظاهرات في جميع أنحاء البلاد، ومنع تركيا، التي تدعم المعارضة السورية بقوة، طلب الأسد في البداية من الأحزاب الكوردية الذهاب إلى دمشق والاتفاق معه،لكن الاجواء كانت مناسبة لسقوط الأسد خلال ستة أشهر، لذلك رفضوا الطلب. وفي الوقت نفسه، رأى حزب العمال الكوردستاني في ذلك فرصة لتعزيز موقفه وتقوية العلاقات مع دمشق التي كانت قد شاهدت مشاكل معها بعد طرد اوجلان عام 1999. كما خلقت الحرب ضد داعش فرصة أكبر لقسد لتعزيز موقفها بمساعدة الولايات المتحدة والتحالف الدولي ومواصلة علاقاتها بشكل عملي مع الأسد وإيران وروسيا والولايات المتحدة والتحالف الدولي.
وبعد سقوط الأسد سيتغير هذان المبدآن، فمن الطبيعي أن وضع قسد لن يبقى كما كان قبل 27 تشرين الثاني ؛ قبل كل شيء سيكون من الصعب على حزب العمال الكوردستاني أن يبقى في سوريا كما كان من قبل. وبما أن دول مثل إيران وسوريا، والجهات الفاعلة غير الحكومية مثل قسد والجماعات المسلحة العراقية لم تتمكن من احتواء نفسها في سوريا ما بعد الأسد دون اتفاق مع تركيا، فإن بقاء حزب العمال الكوردستاني هناك لن يكون سهلاً ما لم يكن هناك انتشار واسع النطاق وحرب طويلة. حتى وقت قريب، نفى مسؤولو حزب العمال الكوردستاني وجود مقاتليهم في غرب كوردستان، لكن أخيرًا اعترف مظلوم عبدي نفسه بوجود مقاتلين أجانب هناك، وإذا تم التوصل إلى اتفاق دائم لإطلاق النار، فإن المقاتلين الأجانب سيغادرون سوريا. وكان تصريح عبدي مدعوماً بإدراك التهديد الذي يواجه الإدارة الذاتية وقسد. ويمكن أن تكون أيضًا خطوة عملية لإنقاذ ما تبقى له. كما أنه نتيجة لضغوط التحالف الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، للتقريب بين كوباني وتركيا. ووفقا لثلاثة مصادر مطلعة، تحدث الأميركيون "بشكل صارم" للغاية في الأيام الأخيرة وضغطوا على قسد لإظهار ليونة تجاه الاتفاق مع تركيا.
لقد أدى الوضع الجديد في سوريا إلى تقليص حاجة الولايات المتحدة لقسد، لكنه لم يقض عليها بعد. وربما يكون هذا هو السبب وراء قيام واشنطن بالضغط على قسد. ووفقا لعدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، رفضت تركيا اقتراحا بإنشاء منطقة منزوعة السلاح على طول الحدود ولديها مطالب أخرى. وكان قائد قسد مظلوم عبدي قد اقترح تحويل مدينته إلى منطقة منزوعة السلاح. وكانت هناك خلافات في الرأي بين الأميركيين وقسد بشأن حجم المنطقة منزوعة السلاح، وبين قسد والولايات المتحدة وتركيا بشأن العملية برمتها، وبحسب التقارير، مارست الولايات المتحدة ضغوطاً على قسد لاتخاذ إجراءات بشأن النقاط الرئيسية لنزع السلاح في المناطق الحدودية التي يبلغ طولها 30 كيلومتراً والتي طالب بها الرئيس التركي اعتباراً من عام 2019، واختفاء حزب العمال الكوردستاني في غرب كوردستان. وكان مظلوم عبدي قد اقترح تجريد كوباني من السلاح من أجل وقف دائم لإطلاق النار، لكن أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي يتحدثون عن تجريد الحدود بأكملها من السلاح ليس فقط كوباني. وقالت الولايات المتحدة مرارا وتكرارا إن تركيا لديها مخاوف أمنية يمكن تفسيرها على أنها احتجاج لوجود حزب العمال الكوردستاني.
النقطة الأخرى هي بسبب الوضع الجديد في سوريا واحتياج اميركا لتركيا اكثر من قبل بالأخص لكي تحمي امن إسرائيل، وذلك في حين ان دمشق تنتظر استقرار دولة اسلامية سنية على حدود إسرائيل. ما عدا ذلك لدى اميركا الآن مرشحون آخرون لكي تحارب بهم داعش؛ تركيا وهيئة تحرير الشام! والذي كان اساسا للتعاون بين قسد واميركا. فكرة حرب داعش من خلال الجهاديين القدامى امر ملفت بالنسبة لأميركا. في الأيام الخمسة عشر الماضية، شنت الولايات المتحدة والقوات العربية في قسد هجومين على الأقل على داعش في ديار بكر، وربما يكون هذا مثالًا نادرًا على التعاون الأميركي المباشر مع الجماعات العربية في قسد، والتي انقسم بعضها مؤخرًا وانضم إلى الحكومة الجديدة في دمشق.
والنقطة المهمة الأخرى التي أوصلت قسد إلى معضلة جديدة هي مساعي الولايات المتحدة وفرنسا لتقريب قسد وجناحه السياسي من المجلس الوطني الكوردي. وهذا أمر مهم بالنسبة للأطراف الأخرى كما هو مهم للولايات المتحدة وفرنسا والغرب بشكل عام أن يكون لديهم عامل توازن القوى في دمشق على المدى الطويل. بالنسبة لقسد والإدارة الذاتية، هذه محاولة للاندماج في النظام السوري الجديد. لأن المجلس الكوردي الوطني يتمتع بشرعية أكبر لدى السلطات الحالية في دمشق. إنها أيضًا فرصة لتجنب الحرب. وقد يعني ذلك أيضاً أن المجلس الوطني الكوردي قادر على التفاوض بكامل اليد في دمشق لأن من لا يملك قوة على الأرض لن يفوز في المفاوضات. وأخيراً، ربما ترغب تركيا في زيادة دور المجلس الوطني الكوردي، حتى ولو اضطرت إلى ذلك، لأن هذا سوف يترجم في نهاية المطاف إلى تقليص الدور الذي يلعبه حزب العمال الكوردستاني في غرب كوردستان.
ما الذي سيحدث؟
في إحدى الفرضيات، سيسيطر الجولاني على سوريا بأكملها بحلول الربيع المقبل، وينظم مجموعات مسلحة تحت إشراف وزارة الدفاع، ويقود البلاد إلى الانتخابات، ويعد دستورًا جديدًا يحمي حقوق الأقليات مثل الأكراد، ويسحب المقاتلين الأجانب. ولكن في الواقع، هو حلم صعب المنال. ورغم الخضوع الكامل لحكم الجولاني في الوقت الحالي، لكن لا احد يعلم كيف سيكون شكل الإدارة السورية الجديدة. علاوة على ذلك، اعتباراً من ربيع عام 2025، عندما يعزز النظام الجديد تدريجياً أسس سلطته، سيزداد الخلاف حول تقسيم السلطة. لذلك، من المرجح أن تنتظر البلاد حرباً أهلية، حتى لو كانت قصيرة الأمد. فمن أفغانستان إلى العراق وليبيا، كانت كل تغييرات الأنظمة في الشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين عقبتها حروب أهلية، ومن غير المرجح أن تكون سوريا استثناءً لذلك. وبالإضافة إلى الديناميكيات الداخلية، هناك العديد من الدول الأخرى في المنطقة غير راضية عن الوضع الجديد في سوريا، والذي يمكن أن يشعل لهيب التوترات الداخلية في سوريا الشرعية.
أمام قسد والإدارة الذاتية خياران. الأول هو التكيف مع الوضع الجديد في سوريا، وبمساعدة المجلس الوطني الكوردي-أربيل، التفاوض مع الجولاني، وبمساعدة الولايات المتحدة وفرنسا وأربيل وربما أوجلان لفتح الباب أمام تركيا. ويتطلب ذلك على الأقل عزلاً ناعماً لقسد عن "المقاتلين الأجانب". والثاني هو الاستمرار والانتظار حتى تتصاعد الحرب عاجلاً أم آجلاً. وفي هذه الحالة، فمن المحتمل أن تخسر مؤسساتها الإدارية والتسييرية في غضون ستة أشهر، ولكنها قد تتمكن من تأمين الدعم الخارجي لحرب حزبية طويلة الأمد.