تحدّدت الدولة السورية بحدودها الراهنة، والمعترَفة بها دولياً بموجب عدّة اتفاقيات ومعاهدات أعقبت اتفاقية سايكس – بيكو، المُبْرَمة بين فرنسا والمملكة المتّحدة في داونينغ ستريت في 16 مايو/أيار 1916، والتي قسّمت منطقة الشرق الأوسط بين القوتين العظميين وبرضى روسيا القيصرية وايطاليا. بموجب هذه الاتفاقية، أُخضِع شمال سوريا الحالية للنفوذ الفرنسي، ولكن بعد تفكّك الإمبراطورية العثمانية وقيام الجمهورية التركية، وقَّعَت عدّة معاهدات بينها وبين فرنسا المنتدبة على سوريا لترسيم الحدود، كان آخرها اتفاق الترسيم النهائي للحدود في عام 1939. في إطار هذا التحديد، ضمّت حدود الدولة السورية، التي نالت استقلالها فعلياً في عام 1946، المناطق المستقطَعة جغرافياً من كردستان العثمانية المشمولة بمعاهدة سيفر، المبرمة في 10 أغسطس/ آب 1920 في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بين الحلفاء والإمبراطورية العثمانية والتي كانت تهدف إلى تطبيق قرارات مؤتمر سان ريمو المتعلقة بأراضي الإمبراطورية العثمانية. وكانت البنود 62-63-64 من اتفاقية السلام هذه تنصّ على إقامة إقليم ذات حكم ذاتي للكرد. وشكّلت المناطق الرئيسية الثلاث: الجزيرة الواقعة في أقصى الشمال الشرقي التي تشكّل المثلّث الحدودي مع تركيا والعراق والتي يُطلَق عليها تسمية «منقار البطّ»، وكوباني الواقعة في أقصى الشمال على الضفّة اليسرى من نهر الفرات، ومنطقة جبل الكرد الواقعة في أقصى الشمال، الشريط الحدودي مع الدولة التركية والذي تخلّله حالات فصل بين المناطق الثلاث إمّا بسبب التمدّد السكاني العربي في جغرافية هذه المنطقة في بعض المراحل التاريخية أو بسبب تغاضي راسمي الحدود عن حقائق التاريخ والجغرافيا في هذه المنطقة، ولذلك لم يُعتَمَد في الوثائق والمطبوعات السياسية مصطلح « كردستان سوريا» وإنّما مصطلح «المناطق الكردية في سوريا». وهكذا، ارتبط مصير جزء من الشعب الكردي مع جزء من الشعب العربي في إطار سوريا التي لم تكن في أيّ مرحلة تاريخية، لا بأكملها ولا في جزءٍ منها، دولة ذات حدود دولية معترف بها قبل هذا التاريخ.
في مرحلة الانتداب الفرنسي التي امتدّت لأكثر من عشرين عاماً (1920-1941)، أخذت سلطة الانتداب التنوّع المذهبي في سوريا بعين الاعتبار حينما أقامت عدّة دويلات على هذا الأساس كحكومة العلويين ودولة جبل الدروز ودولة سوريا، بينما جعلت سنجق إسكندرون يتمتّع بإدارة خاصّة، ثمّ دمجها بإقامة اتحاد بين الدول الأربع في عام 1923، في حين أنّها لم تولِ الأهمية ذاتها للتنوّع القومي والثقافي، وربّما يُفسّر ذلك باستمرار الصراعات الدولية على كردستان التي تجلّت نتائجها في اتفاقية سيفر ومن ثمّ اتفاقية لوزان وأخيراً ضمّ ولاية الموصل إلى العراق وبعض المناطق الكردية إلى سوريا. احتكّ الفرنسيون مبكّراً مع الكرد في جبل الكرد منذ عام 1919 وكوباني في عام 1920 بينما تأخّر الاحتكاك معهم في الجزيرة إلى مراحل متأخّرة من عهد الانتداب. في الجزيرة، تمّ تداول فكرة حكم ذاتي ذي طابعٍ كردي- مسيحي في سوريا، ففي عام 1932، قدّم العشرات من زعماء القبائل والوجهاء والسياسيين الكرد مع رؤساء طوائف مسيحية « عريضة » تُطالب بإدارة خاصّة في منطقة الجزيرة إلا أنّ سلطات الانتداب لم تستجب لها. ورغم عدّة محاولات لاحقة باتجاه المسعى ذاته إلّا أن الفكرة لم تتحوّل إلى مشروعٍ سياسي متحقّق على الأرض.
عانت الدولة السورية المحدثة منذ نشأتها في أعقاب الاستقلال من معضلتين بنيويتين، تمثّلت الأولى في أنّ حدودها فُرِضَت على مكوّناتها من الخارج، فاقتُطِعت أجزاء من جغرافيتها الطبيعة وألحقت بها أجزاء تختلف عنها في هويّتها الغالبة، فيما تمثّلت الثانية في عدم تطابق شكلها ومضمونها مع حقائق ومعطيات واقعها الفعلي، حيثُ أُعلِنَت دولة قومية مركزية في حين أنّها تضمّ في الواقع قوميات وثقافات وأديان وطوائف متعددة. وبالتالي لم تكن معادلاً سياسياً ومؤسسياً موضوعياً لواقعها الاجتماعي المتنوّع.
لم تستطع السلطات التي توالت على حكم سوريا، بعد نيلها الاستقلال، أن تتجاوز هاتين المعضلتين وتنتقل بالدولة السورية إلى دولة ديمقراطية تعترف بالتعددية وتقرّها دستورياً، بل ترسّخت، بمرور الوقت، وبتعاقب الأنظمة التي استولت بمعظمها على الحكم عبر انقلابات عسكرية، الاتجاهات الإقصائية والإلغائية والدكتاتورية التي دعمت الشكل المُمَركَز للدولة بمركزيات عرقية وثقافية وسياسية. ولتحقيق ذلك، كان لا بدّ لها من اللجوء إلى سياسات الصهر والتمثّل القومي بحقّ المكوّن الأساسي المختلف عرقياً عن القومية السائدة ألا وهو المكوّن الكردي، فاعتمدت سياسة مركّبة ارتكزت على مسارين متوازيين: الأوّل هو سياسة التنكّر للوجود القومي وللحقوق المترتّبة على هذا الوجود؛ أمّا الثاني فتمثّل بمجموعة متكاملة من المشاريع العنصرية التمييزية التي هدفت بمجملها إلى العبث بالتركيبة السكانية للمناطق الكردية بما يزيل عنها هويتها الكردية ويضفي عليها طابعاً عربياً.
في مقابل ذلك، تبنّت الحركة السياسية الكردية، التي ولِدَت لتمثيل الشعب الكردي سياسياً والعمل من أجل تأمين حقوقه المشروعة، الأسلوب السلمي في مواجهة تلك السياسة المركّبة وفي المطالبة بحقوق شعبها والعمل في سبيل نيلها. وكان لاتخاذ هذا الخيار جملة من العوامل الموضوعية تتعلّق بما يمكن أن نسمّيه محنة (التقسيم الطرفي) حيث كانت المناطق الكردية عبارة عن أرياف وسهول مستقطعة من مراكزها الحضرية التي ظلّت خلف الحدود الجديدة، وهي سهلية بمعظمها، باستثناء منطقة عفرين الجبلية، صغيرة المساحة مقارنة بسهول المناطق الأخرى. كما أنّ النظم الحاكمة في سوريا اعتمدت منهجاً مختلفاً في التعامل مع الشعب الكردي، ارتكز بشكلٍ أساسي على مشاريع سياسية نُفِّذَت بالقوّة المستترة. وبذلك، وبخلاف القضية الكردية في الأجزاء الأخرى من كردستان، حافظت القضية الكردية في سوريا على طابعها السياسي السلمي ولم تتحوّل في أيّ مرحلة من المراحل إلى صراعٍ أو نزاعٍ مسلّح. ورغم تباين الظروف التي أحاطت بالقضية الكردية في سوريا في مراحل مختلفة من مسارها ورغم تراوح أساليب الأنظمة في التعامل معها بين الشدّة أحياناً والتراخي أحياناً أخرى، ورغم وقوع أحداث ذات طابعٍ محدودٍ في بعض المناسبات، إلاّ أنّ هذا الطابع السلمي ظلّ سائداً.